على مقعد الدرس - محمد موفق وهبه

ـ وما اسمُ المعلمِ..؟ منْ سوفَ يعطِي الدروسْ..؟
ـ أَتَسأَلُني..؟ ليكنْ من يكونْ
أتينا لندرسَ لا لانتقاءِ عريسْ
ـ نعم ليكن من يكون، جوابٌ صريحٌ رصينْ
أتى من لسانٍ حصيفْ
وآسَفُ آنستي لسؤالي السخيفْ
فما زالَ بعدُ لساني الغريرْ
صغيراً طريّا
أحاولُ تدريبَه كي يخوض بشتى الأمورْ
لسوف يُجيدَ الكلام الخفيف الظريفْ
سيغدو الكلام لديه ثميناً نقيّا
لسوف يبزّ النضارَ بسحرِ الحروفْ
قريباً يَهُزُّ جُمودَه
فأرجو قبولَ اعتذاري
لأنيَ ما فُهتُ بالكَلِمات المفيدَهْ
أَأَنتِ جَديدَهْ..؟
ـ نَعَمْ يا صَديقُ وَهل أنت أيضاً جديدْ..؟
ـ جديدٌ.. بهذا اللقاء سعيدْ
ـ إذنْ إتفقنا فَنَحنُ جَديدان مدةَ عامٍ بهذا المكانْ
ـ ألا نستقرّ لبضعِ سنينٍ لنشهدَ منه مرورَ الزمانْ..؟
ـ ستخلُدُ وحدَكَ فيهِ عُقوداً وراء عُقودْ
ـ ومن لا يحبّ الخلودْ..؟!
ـ ستغدو عَتيقاً هنا أبَدَ الآبِدينْ
كبَوّابةٍ أو كَهَذا العَمودِ العَتيقْ
تَعدُّ القُرونْ
ـ ولكن أليسَ يليقْ
بمن كان مثلي يحبّ الفنونْ
بألاّ يكونْ
سوى لوحةٍ مثلِ هذي بأعلى الجدارْ..؟
: إِطارٌ جَميلٌ وَخَطٌّ أَنيقْ
ـ ولكنها ستظلّ مُعلّقةً عشراتِ السنينْ
إلى أن تحين نهايةُ هذا العقارْ
ويأتي الدمارْ
ـ وَأَنتِ إِذا حَلَّ عامٌ جَديدْ
أَتَمضينَ تاركتي في الأَعالي ألمّ الغُبارْ..؟
ـ إِذا شِئتَ تَمشي مَعي فالطَّريقُ عَريضْ
وَإنْ لَم تَشأْ فَابقَ مستمتعاً بالغِنا والقريضْ
ولاحتْ على شفتيكِ ابتسامَةُ وُدٍّ لِذاكَ الحِوارْ
لِذاكَ الجِدالِ المُحَبَّبِ يلبسُ ثَوبَ الشّجارْ
وَحاوَلتُ أَن يستمرّ لذيذُ الحديثِ لوقتٍ بعيدْ
وألاّ يُصيبَ لساني الخُمودْ
وَلَكِنَّني لَمْ أَجِدْ في حَقيبَةِ ثَرثَرَتي من مزيدْ
فهِمتُ بأفقِ الخيالِ شريدْ
تلاقتْ عيونٌ.. وباحتْ بِما فِي الصُّدورْ
ولوَّنَتِ الوجناتِ ورودُ السرورْ
وفاح عبيرُ الجنانِ
وَتَمتَمَ قَلبي بِخَفْقاتِهِ وَلِساني
معاً يرجوانِ
إلهَ السّماء بكلّ خشوعْ
بِأَنْ لا يَجيءَ المُعَلِّمُ هَذا النَّهارْ
لأبقى شريدَ الشراعِ بصفوِ السماءِ وعمقِ البحارْ..!
أَسيحُ عَلى زُرقَةٍ تائهاً لا أُريدُ الرُّجوعْ..!
سِوى لِشَواطِئِ جَفنَيكِ كي أستريحَ.. أَنامْ
بحضن السلامْ
بعتْمَةِ هُدبَيكِ تحتَ خميلِ الظلامْ
ويا طيبَهُ مِنْ هُجوعْ..!
وَطارَتْ إليَّ رُفوفُ الأمانِي
تَرِقُّ لِقَلبي الوَلوعْ
وَتَسقيهِ ماءَ الحَنانِ
وتُهديه ما يَشتَهيهِ
فما حرمتني ليالِيَّ ها أنَذا أقتنيهِ
تَمَلَّكْتُهُ مائساً بينَ زَهوٍ وتيهِ
وَصارَ زَمانِي
صَديقاً رَفيقا
غَفا بَلْ تَوَقَّفَ مِن أَجلِ حبّي
ورفقاً بقَلبي
وَكَفَّ عَنِ الدَّوَرانِ
وَأحْسَسْتُ أنَّ فراغاً سحيقاً عَميقا
يَشُدُّ المَقاعِدَ تحتِي
وَيَغدو جزيلُ الكلامِ لَدَيَّ عسيرْ
لأَنَّ لِسانِيَ حينَ سَكَتِّ
غَدا أَخرَساً لا يَحيرْ
فلُذتُ بِصَمْتي
ومَرَّ قِطارُ الخَواطِرِ بَعدَ طَويلِ انتِظارِي
وفَرَّ من الشفتينِ سؤالٌ تحدى اصطباري:
ـ" وَمَا اسْمُكِ أنْتِ..؟ "
وخَضَّبَ فِي لحنِهِ وجنتيكِ
وغنتْ شفاهُكِ:
ـ" غادَهْ "
أجبتِ وفِي مقلتيكِ
يلوحُ خشوعُ العبادهْ
وتابعتِ دونَ هوادَهْ:
ـ" ومَا اسمُكَ أنتَ..؟ "
تمَطّى على شفتيَّ نداءْ
وَكِدْتُ أقولُ: " أنا مَنْ سرقتِ فؤادَهْ "
وَأبْرَقَ كلُّ وُجودِي وَأظلمْ
كأنّي مَسُوقٌ لِحَتفِي
وَأحْسَسْتُ أنَّ ضُلوعِي تَحَطّمْ
وقلبي يدقُّ بعنفِ
وأنَّ مكانِيَ.. لا.. لمْ يعدْ لِي مكانْ..!
وأحسستُ أني أَسيرُ وَأَنتِ
على بُسُطٍ مِنْ هُدوءٍ وَصَمْتِ
وَنَرقى .. فَتَحمِلُنا غَيمةٌ مِنْ رُفوفِ الحَنانْ
مُضَمَّخَةٌ مِنْ عَبيرِ الجِنانْ
إلى جزرِ العاشقينَ.. وحيثُ يَنامُ الزَّمَانْ
وعبرَ الجِنانْ
ونحنُ نحوِّمُ عبرَ الجنانْ
ترامَى إلى أذنيَّ نشيدْ
هتافٌ أتى من بعيدْ
يجوزُ الدُنى الواسِعَهْ:
ـ" يَعيشُ المُحِبَّانِ فِي الجامِعَهْ "
" يَعيشُ المُحِبَّانْ "
هتافُ الرِّفاقِ.. تذكرتُ أنِّيَ فِي الجَامِعَهْ
ولكنَّنا طائِرانْ
تطلعتُ حولِي كأنِّيَ أحلمْ:
ـ" أينَ المقاعدُ..؟ أينَ التلاميذُ..؟ أينَ المعلمْ..؟ "
وَراحَ الهتافُ يُعيدُ صَدَاهُ المُنَغَّمْ
نشيداً يُردَّدُ عذبَ الغناءْ:
ـ" يَعيشُ المُحِبَّانْ "
" يعيشُ المُحِبَّانْ "
فأسألُ نفسِيَ:
ـ" من أين جاء النداءْ..؟ "
" وَأينَ رفاقِي..؟ "
" وهذي تراتيلُهم أبداً في لِحاقي..! "
" بأذنِ فؤادِيَ مُنسَكِبَهْ "
وجالت عيونيَ حولَكِ مُضطَرِبَهْ
وأدركتُ أنكِ مثلِي تلاحِقكِ النَّغمةُ المُطْرِبَهْ
أسَرَّتْ لِيَ المُقلتانْ
وَنَدَّتهُما دَمْعَتانْ
ولاحَتْ على شفتيكِ ابْتِسَامَهْ
أهاجتْ لقلبي هُيامَهْ
وقلتِ:
ـ" حبيبي.. حبيبي "
نداءُ المُحبّين في كل آنْ
تغرده للزمانِ شفاهُ القلوبِ
ـ" حبيبي.. حبيبي "
وَطارَ صَداها بكلِّ مكانْ
حبيبي تُغَرَّدُ مِنْ شفتيكِ
وأُرجعها من شفاه فؤادي إليكِ
نِداءٌ جَميلْ
وَلحنٌ رخيمٌ عليلْ
وسادَ الفَضاءَ سكونْ
وإذ صوتُ أمِّي الحنونْ
يقولُ:
ـ" حبيبي.. تأخرتَ قمْ منْ فِرَاشِكْ "
.
1961