وكيف يعشق القتيل - ممدوح عدوان

أكان لا بد من الموعد في الشارع؟
إني ألتقي بالصبح في بوابة الموت
وبالموت على قارعة القلب
سجين في محابس الغلاء والمفاجآتْ
يتعبني قهري وأوجاعي
وأكبر الأعباء بينها الحياةْ
حب جديد يفتح الدعوة للدنيا
ولكن موعد العشاق يرعب الحبيس
كيف نلتقي؟
وكم شرنقة عليّ أن أعبر
حتى أصل الحب
تعالي قابليني في شرانق البياتْ
أقول: لا حاجة للموعد في الشارع
إن نحن التقينا فيه نبدو مضحكين
عاشقين دون سقف، أو رغيف أو أمانْ
نصير عاشقين مقتولين
جاهلين كيف يعشق القتلى
وكيف يسترد القبلة المحكوم بالإعدام
كيف يمنح الهارب لمسات الحنانْ
حين تغيم حوله الآفاق
أو تدنو حوافر الخيول من خطاه،
تلهث الكلاب عند ظهره
فلا يرى طريقه إلى النجاة
على الرصيف، حيث نلتقي،
انتظرت
فتشوني
داهمتني نظرات وشظايا
وانتظرت بين خطوتينِ الانفجار
فما الذي سأتقي منها
وأنت تقبلين؟
بغتة ينهمر الردم على قلبي
الذي غافلني يستعجل اللقيا
اعترتني رعشة
خفتُ، إذا جئتِ،
بأن لا تعرفيني
وبأن أعجز عن مدّ يدي تحيةً
أعجز أن أرشف عينيك
وقد أعثر في الدرب إذا سرنا
لأني سأسير تائهاً موزعاً
ما بين عينيك
وما بين التفاتي خائفاً
ونقل خطوتي محاذراً
إني أخاف حارساً،
حين يخاف عابراً
وعابراً حين يخاف حارساً
ثم يخافان معاً مني
من الذي سيقبل ادعائي
إنني أبقى هنا عشقاً؟
وإن الحب سر الانتظار؟
كيف نسير في الطريق عاشقين
الخوف يرتدي ملابس الطغاة
والطغاة يخطئون بالمشاة
وكل طاغ قد يذل عابراً
وبعدها يعتذر الطاغي
ولكن...
ما الذي ينفعني،
إذا أذلوني،
اعتذار؟
هل أمسك الإهانة التي حُمِّلت وردة
لموعد العشق
وأهديك سكوتي في الهوان؟
إذا أذلوني سأبقى خجلاً منك
فلا أعرف هل يعشق مذلول
تلقى الذل في صمت
وفي وضح النهار
كيف أمد نحو خديك يدي
وكل ما يلمسه يهينه الذليل
إذا أتى الحراس صرت شبهة
والشبهة الآن هي الموت
فكيف ألتقي بمن أحب بعدها
إن قتلوني
- ربما من غير قصد قتلوني -
هل تريدين حبيباً قتلوه خطأ
وكيف يضحي العشق بعد قتلي
لم أتعلم كيف يعشق القتيلْ
آه من الوقت البخيلْ
أكلما عانقته استحال
قدم الخوف بديل
آه من الأمن الجميلْ
أكلما قلت له: يا مرحبا
انتهى إلى الصمت الذليل
أواه يا سيدتي
حبك موت، والمواعيد له
صارت جنوناً وانتحار
هل جاء في ملحمة العشاق
للحب الذي أعرفه الآن مثيلْ
ونحن، كلما تواعدنا، التقينا فرحاً
يسيل في عناقنا الذلّ الدخيلْ
وكلما تبسّمت أعيننا
فاجأنا من نبض قلبينا العويلْ
أكان لا بد من الموعد في الشارع
لغم الشارع المذعور موقوت على قلبي
وليس الشارع الملغوم لي
وليس لي أمن الرصيف فيه
أو مداخل الأبنية المعتمة
العشق هنا ليس لنا
يمتلئ الشارع بالأعداء والرماة
يمتلئ الشارع بالمطاردين والجناة
يمتلئ الشارع.. إلا بالحياة
يمتلئ الشارع إلا بي
رائحة الدم الذي ستنزفينه
أضيق بالذئب الذي سوف أصيره
وأعرف الآن ستأتين
فأعوي شرهاً
أكان لا بد من الموعد في الشارع؟
لو أنا تواعدنا إلى البيت
لكي لا تسقط البراءة التي رضعتها
لكي لا تسقط الشجاعة التي ادعيتها
كما يسقط ثوبي ويعريني أمام الناس
لو أنا تواعدنا إلى البيت
ففي بيتيَ لا يخجلني عريي
ولا يستيقظ الذئب مع العري
ولكن...
نصبح العري الذي يطلب دفئاً
ثم يستسلم للحب
فنفغو بين نهديك
كطفل رضع الأمن.. ومات
في البيت أعرف الذين يطرقون بابنا
أعرف أني وحديَ المقصود
لو أتوا يحطمون بابي
لو ضربات كسرت أقفاله
لو عبوة تفجرت فهدمت جدرانه
فلن تكون صدفة
نقول بيتنا ومتنا فيه
تبقى فيه أسراري
وهذا الحب سري
ولا أراك فيه
لا أرى فيه بلادي
لا ... أرى.
إلى متى أظل أنجو؟
قد تعبت من سخف النجاة
وقلت: أترك المسلحين في قتالهم وأهجر البلاد
لكن
لا أرى مما يليق
أن يجيئنا العدو (حين يهرب المسلحون)
ثم لا يرى ذبيحة مثلي
ولا يليق أن ينهار بيتي
عندما يقصف، أو ينسف،
لا يليق أن يخلو ركام ردمه
من جثتي
عرفت منذ زمن
بأن هذي الغابة العمياء
ليست وطناً
لكنها كانت سرير الاحتضار
أكان لا بد من الموعد في الشارع؟
والشارع قد صار كميناً
هل هوانا دعوة للموت؟
أم للركض خوفاً
بين قطعان الذئاب
قد يفيق الذئب في قلبي
وإني أشتهيك، فاهربي
إني أشم ظامئاً
تعودت على تهريبه
كيف توهمتِ بأن الحب للضوء
وأن الحب للشارع
والشارع غابات ذئاب
أصبح الشارع سراً حلبة
يطلق فيها الحب قدام الوحوش وحده
يشيح عنه العابرون
يغلقون في جواره نوافذ الفرجة
يسدلون بعدها الستائر
التي تحميهمُ من الشظايا والعويلْ
وأصبح الشارع مضمار رصاص
راكض بين جسوم العابرين
جاءني الموت على رصاصتين
كيف لي التمييز ما بينهما؟
رصاصتان تسعيان نحو قلبي
ما الذي تنفعني الآن النوايا؟
وأنا مرتبك بينهما
فاجأني تحت خطاي الانفجار
في ومضة التفجير، كالبرق،
رأيت أفق موطني وكان مقفلاً
رأيت أرض موطني
وكانت الأرض أمامي مرجلاً يغلي
وكان الحب بين أضلعي معتقلاً
وكنت في طريق الخوف وحدي
أحمل الهم النبيل
كنت أسير حاملاً أحلامنا
عن وطن أجمل
لا أملك إلا أن أصيح من سويداء الضنى
آهٍ من العبئ الثقيلْ!!
وحدي أسير تحته مرنحاً ومثقلاً
والعالم المحيط بي يدور أو ينهارُ
لا أدري أصبتُ بالدوارِ
أم أصيبت بالسعارْ
كيف سألقاكِ وقد ضاق على قلبي الحصارْ؟
وكيف لي أن أعرف الآن
إذا كنتِ أتيتِ
أمسى طفل راكض
لم يصل المدرسة
استهوته لعبة له
أن يعتلي الجو بلا قفز
وأن يطارد اليد التي
أفلتها التفجير منه
لم يعدْ ولم تعد ذراعه
عاشقة متعبة
ترتاح في ناصية الموت قليلاً
لا ترى عاشقها
وظل وحده
يهيئ العتاب بالوجه النحيلْ
وبغتة ذوى
دعته طلقة مسرعة إلى سباتها الطويلْ
وأمس جلاد أضاع الدرب في الردم
فلم يصل إلى قبو المساجين
وميت ضل عن قبر
فكيف نلتقي؟
رصاصة أطلقها الخائف
كي يقتل خوفاً شلّه
فارتطمت بي وبعينيك
فماذا تفعلين بالدلال المتراخي بين عينيك
إذا ما اندفعت بينهما رصاصة
وكيف ألقاك إذا فاز زحام الخائفين
في طريق كله دخانْ
وما الذي يفعل صدرك بالنهدة
إذ يبتدئ الركض الجنوني
وأين تودعين ما لديك من حنانْ
وما الذي يفعله نهدك بالحلمة
إما فرقت بينهما شظية
وما الذي أفعل بالقبلة
إن عز الأمان
هأنذا في الشارع الموقوت
حسب موعدي
منتظر
أكان لا بد من الموعد في الشارع؟
إني صامت وخائف
لا أنطق احتجاجي المرير
تعرفين أني دونما لسانْ
وها هي الآن الشظايا
ملأت فمي
وقد صارت بديلاً للّسانْ
____________
من ديوان: للخوف كل الزمان