وكان الخوف شوقاً - ممدوح عدوان

إلى نيرودا .. وآخرين
ليس بين الوباء ، وبين الوباء سوى الأوبئهْ
المياه تجف ، وبرقكَ لا يتكشف إلا عن الموتِ
هيِّء له ما تبقى من الجسد المهتري
وتهيأ كما تتهيأ للعرس عاشقة
وكما تتهيأ ثاكلةٌ لاستلام توابيت أبنائها
إنه الموت ،
بين الحشود يفاجئ
إذ يخلع البسمة الزئبقية
يخلع أوسمة الجنرال وسترته
ويفحّ فينسل بين الوباء وبين الوباء
مثلما كنت تخشاه جاء
الحصار يضيق ،
وخطو الجنود يلامس أوردة الخوف
والبندقية تعصاك
أشفقتَ أن تقتل المتَمَسْكِن في مقعد الشللِ ،
الآن يقفز كالجندبِ
الآن يركض خلفك ملء البلاد
هو الآن يطلق صوبك لم ترتجف يده
كان حلمك يبدأ من جسدٍ يتواصلُ
من ضحكةٍ كالرنين
وأرغفةٍ تتوهج
وانفجر الحلم من لغمه
] تتفتح فيه الكمائن
تُسْتَلُّ منه الخناجرُ
تنهمر الطلقاتُ [
سلاحك يعصاكَ
كيف ستطلق من معدن حقدك المتنمِّر ؟
تنهمر الطلقات
تفجّر أحلامَكَ اليانعاتِ
وأصواتها تتبدّد بين الضجيج الذي صنعوه
تَحوَّل حلمك يطلب لو طلقة الرحمةِ العربيةِ
تصفرّ فيكِ المدينةُ
وهو يجيء :
ذراعاً بلا جسدٍ
قدماً دون رأسٍ
تخفى طويلاً ببنكٍ وعاهرة
فقّسَتْهُ المتاجرُ والرتبُ الخلبيّةُ
لم يبق في الأرض متّسعٌ للصراخِ
ولم يبق في العمر متّسع للسؤالِ
ولم يبق في القلب متسع للبكاء
مثلما كنتَ تخشاه جاء
وخطاه تدبُّ إليك على جثث الفقراء
الذين أبوا جوعهم
وعلى أوجه الفقراء الذين اشتروا جوعهمْ
جاء يرشده الأصدقاء القدامى
تدجج بالخائنينَ
فضاقت حدود البلاد إلى شاطئ القلبِ
وانتفخ القلب بالقهر حتى حدود البلادِ
وعيناك أقفلتا عند باب الشقاءْ
الهدير الذي لازم الموت
يغنيكَ عن قرعةِ البابِ
إن الشتاء يجيء من الغربِ
تعرفه من سواد الغيومِ
ومن رجفة في المفاصلِ
إن الطغاة يجيئون بين نسائم باسمةٍ
ويجيئون من رهبة تجعل الجبناء قساةً
وهم ينصبون المشانق من حبل سرتكَ
اليوم لن تتأوه
موتك يأتي من الوجع الفاجعيِّ
إذا جندوا كلماتك في شدق سمسارهم
جعلوا من جنائز عمركَ أعراسهم
ودعوك لترقص فيها
وخلوك بين الجنون وبين القبولِ
همُ اختزلوا من جهاتك بالوحشة الأبديةِ
ضاقت حدود الأماكنِ ، واختصروا من جهاتكَ
ظلّ لك العمق ، فاسقط بعمر وضيعٍ
أوِ انتظر الموت ينبع فيك
من الدمع حين حبستَ
من الآهة المشرئبة حين لجمتَ
لقد هرب الأصدقاء من القلب نبضاً فنبضاً
وتاهوا بزيف الغنائم
لم يسمعوك وأنت تحذرهم أنها أُحُدٌ
أن تجار مكة يلقون بعض الفتات
لإخلاء هذي المتاريس
يلتفّ جيش وراء المواقعِ
أنتَ ابتدأتَ لكي تلتقي بالفجيعةِ
منذ تخليت عن وجبة طبخت بالدماءِ
فصرت لهم غصةً
صار طعم المرارة لوناً يميز جرحَكَ
قلبُكَ يقفز كي يتدارك شيئاً
فتغمض عينيك كي لا ترى سقطة الحلم
دنيا حواليك عادي إلى جاهليتها
والطريق التي كنت تطلب بين "المدينة" والوجبتين
تصير طريقاً لتجار مكة
كل معلقة في عكاظ تندِّد شامتة بالغفاريِّ
سوق النخاسة تفتح عند الأذان بصوت بلال المؤلِّب
" الله أكبرُ ،
حيَّ على الثأر من فقراء البلادِ "
ويبتدئ الثأر من ياسرٍ وسميةَ
أعداءك انتصروا
والكسالى أتوا يرِثونكَ قبل الردى
إنهم ينهبون السفينة
كلٌّ تأبط منها خفيفاً عزيزاً
وأنت تراقبهم ، وسلاحك يعصاك
تَرقُبُ كيف تميل السفينةُ
والموج يقسو عليها
وموتكَ ترقبه يتسلق هذي الحبالَ إليكَ
وراء خطاه نعوش الأحبة مثل السفائنِ
صرتَ وحيداً
وهم يهجرون السفينةَ
كلٌّ تأبط منها خفيفاً عزيزاً
وكانت لهم خشباً ،
ومطيةَ بحر يهيجُ
وراحلةً تنقل الصفقات
وتبقى السفينة موطنكَ المرتجى
والحنينَ إلى لمسة البحر عند الحوافِّ
إلى لسعة الريح فوق الصواري
وأولَ إراقة الحلم عند ملامسة الماءِ
والعرَقَ المتصبِّب عند مواجهة الخطرِ
الآن أنت وحيد
تودع حلمك في أن تشاركها حتفها
حين تُغْلَقُ أبوابُ كل نجاةٍ
وينفجر الحلم:
تُصلب فيها برغمكَ
فالكلّ يمضون عنكَ
الرفاق نعوش كأشرعة تتشرد في الريح
والأصدقاء القدامى كقافلة حملت كل ما في السفينةِ
والآخرون يبيعون هيكلها المتبقيَ
- لو تركوه ضريحاً –
وتبقى وحيداً بمقبرةٍ دون قبرٍ
ويقبل موتك
لا تقبلِ الإرتخاء إلى أن يفاجئك
الآن تنهض ، مهما تكن حالة البيتِ ،
تستقبل القادمين بشوشاً
كما يفعل الفقراء
سوف تنقل خطوك عبر الأنين
فتنبئك الأوجه المكفهرة
أن لا مكان هنا للغناء أو الشعراءِ
ولا غد للفقراءْ
الفجيعة تسفر عن وجهها
منذ أن قيل : نزفك ماء
وهذي البلاد قميص
وقيل: احمرار المياه هنا ليس من دمك المتدفقِ
بل خجل الإنتماءْ
وتُفجر حلمك ،
تنبشه من قبور دوارسَ
تأبى عليه الدموعَ
ستصنع حلماً جديداً
فموتك نومٌ
لعل احتضانك للموت يأتي بحلم جديد
فما كنت تطمح أن تستزيد من العمر
حتى تطاول فكيك
حني الكهولةَ رأسكَ بعد زمان الإباءْ
عشتَ تنتظر الطعنات بظهرك ،
جابهت حرباً وحرباً وحرباً
وجابهت موتاً وموتاً وموتاً
وموتك هذا الذي يقرع البابَ
مثل الذي كنت تبحث عنه
ولكنه جاء مختفياً مثلما تقبل الكهرباءْ
أنت لن تُخمد النَفَسَ المتردّد ،
بل تصرخ الآن : "فلتفعلوها"
وقلبك يكبر قنبلة
تتمدد حتى تمس حدود البلاد
فتصعقها رجفةٌ
وتفجّرها أدمع الفقراءْ
جاءك الموت فانهض
لتلقاه مبتسماً
مثلما تقتضي الكبرياءْ
كان خوفك منه انتظاراً تقنّع ،
شوقاً تأبى
.. وجاء
مثلما كنت تخشاه جاء
مثلما كنت تخشاه جاء
فانهض الآن في وجهه مثلما تقتضي الكبرياءْ
ستقول لنفسك : "هيا بنا"
وتودع أحلامك الذابلات
وأنت تسير إليه
تراه صديقاً قديماً
وضوءاً إذا انطفأ الآخرون
وتكتشف الآن هذا الحنينَ القديمَ إليهِ
تعانقه
وكما يطفأ الضوء في الريحِ
في حضنه تستريحْ