الحفّار .. - نزيه أبو عفش

منذ زمانٍ وأنا أحفرُ في هذا الظلام الموحشِ؛
لا أحفرُ بحثاً عن مفاتيحِ قلاعٍ أو كنوزِ مدنٍ ميّتةٍ،
عن رُقُمٍ سوداءَ أو تيجانِ أجدادٍ ملوكٍ
حُفظتْ أسمالهم في الطينِ.
لا؛ بل أحفرُ الظلام كي أُبصر أسمائيَ في آخره ..
أحفرُ كي أنظف المرآةَ من غبارها الأبكمِ ..
أحفرُ الغيابَ كي أَرى
شهوةَ نفسي حيّةً في صدأ الغيابْ.
أحفرُ .. لا مستعجلاً ولا ملُولاً،
أجمعُ الغصاتِ في إنائها الأسودِ
والدموعَ في إنائها الكحليَّ
والدماءَ في إنائها الحزينِ ....
ثم أنفخُ الحياة في الحبرِ.
... إذنْ: أحفرُ.
.. .. .. ..
بلْ أحفرُ كي أرى
ما لا يُرى إلا بعينِ القلبْ:
أحفرُ كي أراني.
وهاأنا الآنَ كأنْ لستُ أنا
أعود كالمنجّمِ الأعمى إلى ديار أسلافي:
أَعدُّ الحجرَ الصامتَ والغبارَ/
حيرةَ الأشجار في هوائها الشائخِ..
ما خلّفهُ النسيانُ من تأتأةِ الطيورِ
فوق غُصُنِ الحضارة الدامي..
أَعُدّ ضجرَ الظلالِ فوق نَعشها الأخضرِ
(لا ظِلَّ لها سواها
طافيةً فوق الخرابِ!..).
وأَعُدّ وحشتي.
.. .. .. ..
.. .. .. ..
سمعتُ أنّةَ الظلام تعلو، فطرقتُ حجرَ الظلامْ.
طرقتُ حتى استيقظتْ عناصرُ الخليقةِ الأولى:
العظامُ استيقظتْ .. ونهضتْ تمشي
الضلوعُ استيقظتْ .. ونهضتْ تمشي
النعاسُ استيقظَ ..
استيقظتِ العناكبُ، الديدانُ، ذرّاتُ الهيولى الأمِّ،
نملُ التعبِ الممجَّدُ ..
استيقظتِ الروحُ ....
وفرّتْ نحلةٌ!!..
شهقتُ:
يا إله الأرض هذي نحلةُ الأجدادِ ما زالت هنا
تُقطِّر الربيعَ من لعابها الأشقرِ؛
والدودُ الشقيٌّ ينسجُ النعاسَ في أبدهِ الداكنِ؛
والنملُ الذي كان هنا منذ قرونٍ لم يزل هنا
يديرُ مغزل الموتِ ويصنع الحياااة/
و "اعبُدْني" .. يقولُ النملُ لي.
"اعبدني" .. تقولُ يَرَقاتُ الضجرِ.
"اعبدني" .. يقولُ السَرْوُ، والهواءُ،
والنحل الشجاعُ (راهبُ الزهوْرِ)
والماءُ البنيُّ .. توأمُ النور الذي يشهقُ تحت النوْرِ
والبذورُ ..
والطحالبُ العمياااءُ ....
كلها تقول لي:
"اعبدني ...".
فأَطرُقُ الظلامَ كي أَعبدَ ما يفيضُ من أنواره على فمي
أهزّ قلبَهُ الشقيَّ
باحثاً (في قلبهِ الشقيّ) عن لؤلؤةِ اللطافةِ الأولى.
أهزُّ قلبَهُ .. (لكي أهزّ قلبَهُ)
فتسطعُ الحيرةُ زرقاءَ!...
عِمِي إذنْ أيتها الحيرةُ ..
عِمْ يا جدّيَ الظلامُ ..
يا أرضُ عِمِي ..
وعِمْ أخي الدودُ .. حكيمَ الندمِ الأعمى.
وعِمْ صديقي النحلْ.
وها أنا الآنَ، هنا، كأنني سوايَ:
ندمي عالٍ وبأسي مالحٌ،
وليس لي من فطنةِ الأمواتِ غيرُ أنني
أحرثُ في حديقةِ الأموات:
أستنطِقُ ما يهبُّ من ظلامهم على فمي ..
أقولُ ما قالوه؛
أُحْيي شجنَ الكلامِ في محبرة الكلامِ؛
أرعى غنمي على مروجهم؛
أشربُ من إناءِ موتهم؛
أقول ما قالوهُ: (ما يقوله الظلامُ لي)؛
أستحضرُ الفطنةَ من طلاسم العبارةِ الأولى
وأحني كبرياءَ الوحشِ قدّامَ إلهِ الوحشِ:
"يا اللهُ، يكفي ألماً.
تعبتُ. بل تعبتُ. بل تعبتُ مّما تتعبُ الوحوش منهُ.
تعبتْ مخالبي، ناري، حديدي، شهوتي.
تعبتُ من طيشِ رماحي .. وتعبتُ منكَ.
داوِني إذنْ ..
داوِ حديدي بحليبِ الضعف ..
داوِ حيرتي بحيرةِ الجمااالِْ"
..والأمواتُ، في حديقةِ الأمواتِ، أمواتٌ.
يهذّبون حمتهم بعسلِ الظلامِ،
يبنون بيوتهم من الظلامِ،
يبكونَ ظلاماً ..،
ويربّون إناثَ النحل في أفواههم
لكي يلطّفوا
مذاقَ نومهم.
.. .. .. ..
.. .. .. ..
"أقولُ ما قالوهُ":
هذا نحلنا الباكي،
وهذا النحلُ شيخُ سعْينا الشقيّ،
هذي الدودةُ الشقراءُ صوتُ نومنا،
وهذه المروجُ .... دمُنا الأخضرُ.
.. والماءُ لهاثُ ضعفِنا.
"أقولُ ما قالوهُ".
أستخدمُ ما كان لهم من حِيلِ العيشِ: الفؤوسَ، الكتبَ،
النيرانَ، زهوَ الفقهاءِ، صلفَ الحديدِ، حبرَ الشعراءِ، شهواتِ
الليلِ، ضعفَ العاشقينَ، الغضبَ، الحياءَ، ملحَ الخوفِ،
طعمَ الألمِ الحامضَ، خوفَ الموتِ .....
ثم الموتُ !!...
والهواءْ
أزرقُ كالنسيانْ.
.. .. .. ..
.. .. .. ..
"أقول ما قالوهُ"..
ثم أنحني عليّ باكياً كأني حيرةُ الموتى ..
كأني روحُهم تنهضُ في شجاعةِ النحلِ وحكمةِ النمااالِ/
"ما الذي جئتُ لكي أفعلهُ؟ .. -أقولُ هامساً لي.
ما الذي أرغبُ في رؤيتهِ غيري؟ .. وما الذي؟ …".
- جئتُ أصلّي لأله الضعفِ ..
جئتُ أعبد الجمالَ صامتاً.
..وهكذا ينفتحُ الظلامُ لي.
أنامُ كالميْتِ إلى جوارهم .. فأبصرُ النجومْ
أبصرهم فيها
أبصرُ صوتَ موتِهم
أشمُّ ملحَ الخوفِ في هوائهم (خوفي ...)
أشمّ طعم الصلواتِ، الندمَ، الغفرانَ ..
والضعفَ الذي صيّرهم آلهةً:
أرى الجمالَْ.