الأسوار - محمد نجيب المراد

الوطنُ حقٌ أصيلٌ لا يُمنَحُ ولا يُمنَع"

ورَجَعتُ أحملُ دمعتي، وعَزائي
أنَّ الدموعَ مطيَّةُ البؤساءِ

شَجَني، مشى بي، كُلُّ جسمي نازفٌ
وكأنني خطوٌ من الأشلاءِ

رَصَدتْ حنايا الدربِ قسوةَ رحلتي
فتنهدتْ من شدةِ الإعياءِ

***

كَمْ ضمَّني جُنحُ الظلامِ فأورقتْ
أشجارُ حُزنيَ بالأسى الوضَّاءِ

تَخْضَلُّ جدرانُ السوادِ طهارةً
ويفيضُ مسكٌ مُشْرَبٌ بصفاءِ

وتَئنُّ أعماقُ السكونِ لآهتي
وَجَدَ السكونُ لرعشتي وبكائي

تتألَّقُ الآلامُ في ليلي رؤىً
من بهجةٍ ودُمىً من الأضواءِ

يتبخترُ الحزنُ النبيلُ على دمي
فيحيلُني قَبَساً على الأرجاءِ

ويدوسُني الشوقُ المبرِّحُ مُوْقِظاً
فِيَّ الترابَ ومُشعِلاً أنوائي

هذي طقوسُ العِشقِ تَهْصُرُ مهجتي
وتُبارِكُ الثوراتِ في أحشائي

هذي هُتافاتُ الجوانحِ أوْشكتْ
أنْ تملأ الدنيا بلا استثناءِ

سَكِرَتْ قناديلي فرنَّحتِ الدُجى
وتلعْثَمتْ خوفاً مِنَ الإدلاءِ

***

ماذا بقلب الضوِء يكتُمُه أسىً؟!
النورُ يفَضَحُ سِرَّهُ بجلاءِ

ماذا يُكمِّمُ صوتَ معراجي هنا
ماذا يُكبِّلُ صهوةَ الإسِراءِ

تعبتْ حروفُ الياسمينِ على فمي
وتعبتُ من بَوْحي على استحياءِ

هذي بثينةُ مَأزِقي وقضيتي
ولهاثُ أعصابي، وركضُ دمائي

ترنو من السُّورِ البعيدِ لعلها
تحظى بما ترجوه من أنباءِ

****

ووصلتُ عند السُّورِ دمعةَ لاجئٍ
خيماتُهُ اهترأتْ مع الأنواءِ

ومُنِعتُ مُلكيَ والرجالَ وما انطوى
تحت الضفائِرِ مِنْ عطورِ نسائي

وذؤابةَ الأطفالِ دَلَّلها الهوى
فتمايلتْ طَرَبَاً مع الإطراءِ

وشوارعَ الفلِّ امتطى حيطانَها
عَبَقٌ يراقصُها على خُيَلاءِ

وحُرمِتُ حتى نسمةَ الفجرِ التي
كانت تقيمُ صلاتَها بفِنائي

إنِّي على الأبوابِ أحملُ خيمتي
يَئسَتْ بلادُ اللهِ من إغوائي

السُّكَّرُ الفتاكُ والشِّرْيانُ والضـ
..غطُ المُعَرْبِدُ خابَروا أعدائي

وتآمرتْ ضدي مواجِعُ مهجتي
وَوَشَتْ عيوني فيَّ بالإيحاءِ

وأنا على الأبوابِ أطرقُ صاحَ بي
صوتٌ كسُمِّ الحيِّة الرقطاءِ

مَنْ أنتَ؟ قلتُ أنا الندى وأنا الترا...
..بُ الحرُّ، والرئتانِ للأحياءِ

وأنا نشيدُ الحُبِّ والأملُ الذي
قد طرَّزَ الأشجارَ بالأفياءِ

وأنا القصيدةُ والكتابُ وما حوتْ
لغةُ العروبةِ من حروفِ هجاءِ

مَنْ أنتَ؟ صاحَ "بلهجةِ القبوِ" التي
فاحتْ كطَعْمِ الموتِ في الأجواءِ

مَنْ أنتَ؟ قلتُ أنا الذي حَمَلَ الجراحَ
مكابراً ومصابراً بشقاءِ

ما كنتُ إلاَّ شاعراً ومعلِّماً
ومطبِّباً في مبضعي ودوائي

مَنْ أنتَ؟ صاح كأنَّهُ مَلَكَ الدُّنا
وأنا!! بمملكتي وفي أشيائي

داري وأشجاري ومخبأُ أَنْجُمي
وكنوزُ أجدادي أتتْ لِلقائي

وأبى وأنكرَ ثم زمجرَ سائلاً
مَنْ أنتَ؟! قالَ بلهجةِ استهزاءِ

فضحكتُ .. قلتُ أنا الأسى يمشي وأنـ
..تَ البلسمُ الشافي لكلِّ بلاءِ

افتحْ ! فإنَّ البابَ كلَّ على يدي
مَنْ أنتَ ؟ صاحَ ولمْ أُتِمَّ ندائي

مَنْ أنتَ ؟ صاحَ! أجبتُهُ بلْ أنتَ منْ
ونهضتُ مثلَ الرُّمحِ في الهيجاءِ

ووضعتُ فوق الجرحِ ملحاً كاوياً
ورميتُ في وجهِ الحقودِ حذائي

***

أغلقْ على الأحقادِ مُلكَ بني أبي
وامنعْ صدى صوتي عن الأبناءِ

زَوِّرْ تواريخي وفخذَ قبيلتي
واطمسْ قلاعَ العزِّ من آبائي

واحذفْ مِنَ القاموس، شِعِّري خُلِّدَتْ
آياتُهُ في سُورةِ الشُّعَراءِ

واكتبْ على الأبوابِ، اسميَ خالدٌ
تتوالدُ الأسماءُ من أسمائي

أنا خارجَ الأسوارِ إلا أنني
أنا داخلَ الدنيا وأنتَ النائي

***

إني انتصرتُ عليكَ، شدوي شاهدٌ
والناسُ خلفَ السُّورِ في إصغاءِ

مُتْ أنتَ، إني قد وُلِدتُ بطعنتي
شكراً إذن! للطعنةِ النجلاءِ

***

شرَفي وإيماني وخلجةُ خاطري
وصهيلُ روحي في كُوى العلياءِ

أبقى وأخلدُ منكَ رغمَ مدامعي
فأنا بدمعي أنبلُ الشهداءِ

****