جِـراحُ فِلسطين - حلمي الزواتي

في وداع أبي سلمى،
الأستاذ الشاعر عبدالكريم الكرمي،
زيتونة فلسطين الخالدة...
*
(1)
لَمْلِمْ جِراحَكَ فَالجِراحُ وِسامُ
وَ انْهَضْ بِنَفْسِكَ فَاللئامُ لِئامُ
وَ انْفِرْ الى العَلياءِ غَيْرَ مُهادِنٍ
فَمِنَ الدِّماءِ تُخَضَّبُ الأَعْلامُ
وَ ازْرَعْ سِهامَكَ في قُلوبِ عُداتِنا
هُو ذا الفِداءُ، وَ هكَذا الإِقْدامُ
فالحَقُ يُنْزَعُ بِالدِّماءِ وَ طالَما
تَجْري الدِّماءُ، فَعِزَّةٌ وَ وِئامُ
(2)
ماذا أَقولُ وَ في فُؤادي غُصَّةٌ
وَ القَلْبُ باكٍ وَ الحَياةُ قَتامُ
أَبْكي .. وَ ما عَرَفَتْ عُيوني عَبْرَةً
أَنبو.. وَ إنِّي في الجِهادِ إِمامُ
سَبْعونَ عاماً لَم نَكِلَّ وَ حَيْثُما
وَلَّيْتَ وَجْهَكَ مَدْفَعٌ وَ حُسامُ
في أَرْضِنا وُلدَ الكِفاحُ مُجَلْجِلاً
وَ عَلى رُبانا تُغْسَلُ الآثامُ
وَ الفَجْرُ يَبْزُغُ مِنْ بِلادي نُورُهُ
وَ الشَّمْسُ تُشْرِقُ وَ الضُّحى بَسَّامُ
وَ الزَّحْفُ يَبْدَأُ مِنْ بِلادي رَكْبُهُ
وَ بِأَرْضِنا تَتَفَجَّرُ الأَلغامُ
وَ النَّصْرُ يَبْدَأُ مِنْ حِمانا عُرْسُهُ
وَ بغارِنا تَتَزَيَّنُ الأَيامُ
وَ الخَيْرُ يَنْبُعُ مِنْ فِلِسطينَ التي
عَبَقَ العَبيرُ وَ لَذَّتِ الأَنْسامُ
وَ اللهِ ما عَرَفَتْ عُيوني لَذَّةً
أَبداً وَ لا في البُعْدِ طابَ مَقامُ
(3)
عَفْواً أَبا سَلْمى فَقَدْ طالَ السُّرى
فَالليلُ داجٍ وَ الطَّريقُ ظَلامُ
قَدْ مَزَّقَ الأَعداءُ صَدْرَ بِلادِنا
وَ اسْتَأْسَدَتْ مِنْ حَولِنا الأَغْنامُ
أَنا لَسْتُ أَدْري يَا أَخي ماذا جَرى
هَلْ للِعُروبَةِ صَحْوَةٌ وَ قِيامُ؟
وَ هَلِ العُروبَةُ أَنْ نَظَلَّ قَبائِلاً
تَلْهو بِنا الأَوْثانُ وَ الأَصْنامُ؟
سَلَبوا خُيوطَ الفَجْرِ مِنْ أَحْداقِنا
وَتَبَدَّدَتْ مِنْ حَوْلِنا الأَحْلامُ
يَتَهاونونَ إِذا مَضَوْا لِعَدُوِّهِمْ
وَ عَلى الشُّعوبِ بُغاثُهُمْ ضُرْغامُ
قَدْ تاجَروا بِدِمائِنا وَ دُموعِنا
وَ تَهاوَدَتْ في بَيْعِها الحُكُّامُ
قالوا لَنا: نَحْمي دِيارَكُمُ غَداً
وَ إِذا الأَماني كُلُّها أَوْهامُ
يا بائِعي وَطني كَفاكُمْ خِسَّةً
ما كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّكُم أَزْلامُ
كَذَبَ الذي زَعَمَ العُروبَةَ مِنْبَراً
وَ هَلِ العُروبَةُ مِنْبَرٌ وَ كَلامُ
إنَّ العُروبَةَ أَنْ نَعيشَ بِعِزَّةٍ
أَوْ أَنْ نَموتَ وَ سَيْفُنا الصَّمْصامُ
(4)
قُمْ يا أَخي وُ اعْصٍبْ جِراحَكَ وَ انْتَفِضْ
فَعَلى دِمانا تَهْتَدي الأَقْوامُ
سَنَشُقُ دَرْباً لِلرُّجوعِ مُعَبَّدٌ
بِجَماجِم الأَحْرارِ.. ذاكَ مَرامُ
وَ نُعيدُ للأَقصى الحَبيبِ جُموعَهُ
لا الحَبْرُ يَدْخُلُهُ وَ لا الحاخامُ
وَ يُبارِكُ الأَبْطالُ زَحْفَ جُموعِنا
وَ تَضُمُّنا الأَوْهادُ وَالآجامُ
حَسِبوا بِأَنَّا قَدْ تَمَزَّقَ جَمْعُنا
إِرْباً وَ حَطَّتْ فَوْقَنا الآلامُ
وَ نَسَوْا بِأَنَّ الشَّعْبَ صانِعُ مَجْدِهِ
وَ الأُسْدُ مَهْدُ عَرينِها الآكامُ
وَ الشَّعْبُ رُغْمَ سُجونِهِمْ وَ سِياطِهْمْ
باقٍ وَ هُمْ مِنْ حَوْلِهِ أَنعامُ
وَ الشَّعْبُ باقٍ إِنْ تَمَزَّقَ شَمْلُهُ
حُراً، وَ إِنْ يَتَكاثِرُ الأَخْصامُ
عَهْداً سَنَمْضي لَنْ يَفُلَّ صُمودَنا
مَلِكٌ طَغى أَو حاكِمٌ ظَلاَّمُ
(5)
يا شاعِرَ الأَحْرارِ يا زَيْتونَةً
خَضْراءَ لَنْ تَجْتَثُّها الأَعْوامُ
سُقْيا لِروحِكَ يا رَفيقَ نِضالِنا
يا ابْنَ الجِبالِ الشُّمِّ، يا هَمَّامُ
ذِكراكَ باقِيَةٌ وَ صَوتُكَ هادِرٌ
وَ جَميلُ شِعْرِكَ خِنْجَرٌ وَ سِهامُ
فارْقُدْ قَريرَ العينِ لا مَحْزونَها
تَفديكَ مِنَّا أَنْفُسٌ وَ عِظامُ
يَرعى الإِلهُ بِفَضْلِهِ وَ بِجودِهِ
أَرْضاً عَلَيها العُرْبُ وَ الإِسْلامُ
وَ يُعيدُ لِلْمَظلومِ كامِلَ حَقِّهِ
فَهُوَ النَّصيرُ وَ عَهْدُهُ إِلزامُ
وَ اعْلَمْ بأَنَّ اللهَ ناصِرُ دينِهِ
وَ هُو الوَلِيُّ وَ حَسْبُنا العَلاَّمُ
____________
جِـراحُ فِلسطين: من ديوان "تَرفضُ السّرجَ الجِيادُ"،
بيروت: مؤسسة السنابل الثقافية، 1982. ص ص 55-71.