نُقوشٌ بالدمِ عَلى صَدرِ الحَبيَبة - حلمي الزواتي

(1)
تُفاجِئُني الرِّيحُ في ساعَةِ الفَجْرِ
أَنَّ زَواتا تَشُدُّ الرِّحالَ إِلى الأَرْض سِرّا
تُفاجِئُني الشَّمْسُ في لَحْظَةِ الانْصِهارِ
بِأَنَّ زَواتا تُحِبُّ الظَّلامَ
وَ تُبْحِرُ في الليْل طَوْعاً وَ كَرْها
تُفاجِئُني الشَّمْسُ
ما أَصْعَبَ الشَّمْسَ حينَ تُفاجِئُ
وَ الجُرْحُ يَنْزِفُ ما بَيْنَ قَلبي وَ يافا
تَرَجَّلْتُ مِنْ فَوق هذي السِّنينْ
تَطَيَّبْتُ بِالذِّكْرياتِ و هذا الحَنينْ
وَ لكِنَّ جُرحي تَنَبَّهَ لِلمَرَّةِ الأَلْفِ
أَنَّ الجِراحَ تُحِبُّ شَذى البُرْتُقالْ
وَ تَكْدَحُ في الصَّخْرِ مِثْلَ الرِّجالْ
وَ تَحْفِرُ دَرْبَ الفِدا وَ النِّضالْ
(2)
تُفاجِئُني الرِّيحُ في لَحْظَةِ الانْتِظارِ
وَ ما أَصْعَبَ الانْتِظارَ وَ جُرحي
وَ روحي تُسافِرُ ما بَيْنَ يافا و غَزَّهْ
وَ كُلُّ دَوالي الخَليل وَ سَرْوِ الجَليل
وَ كَرْمِلُ حَيْفا يُعِدُّ الجَنازَهْ
هُنا الحُبُّ كانَ
هُنا الليْلُ طافَ
هُنا الفَجْرُ ناحَ
هُنا العِشْقُ يَزْرَعُ روحي جِراحْ
تَبَسَّمْتُ مِنْ خَلْفِ دَمْعي
تَيَبَّسْتُ في مَدْخَل للمَنافي
وَ لكِنَّ جُرْحي المُعَتَّقْ
تَفَتَّقَ عَنْ نَرْجِس بَلَّلَتْهُ عُيوني
فَنامَ وَ نامَتْ عُيونِيَ بَيْنَ النَّدى
وَ الرَّحيلْ
(3)
تُفاجِئُني....
وَ لا شَيءَ عِندي يُفاجِئْ
تَخَشَّبَ قَلبي بَيْنَ السَّنابِل وَ الارْتِحالْ
تَوَزَّعَ قَلْبيَ بَيْنَ الحُروفِ وَ حِبْرِ المَطابِعْ
وَ لكِنَّني الآنَ لا أَسْتَطيعُ
لأَنَّ الرِّياحَ تَسوقُ المَراكِبْ
وَ يَغْرَقُ لِلمَرَّةِ الأَلْفِ جُرْحي
وَ لكِنَّ روحِي سَتَبْقى تُسافِرْ
وَ هذا الزَّمانُ سَيَبقى المُحاصِرْ
وَ عُمري تَحَوَّلَ ما بَيْنَ يافا وَ غَزَّةَ
طِفلاً رَضيعاً يُناضِلْ
وَ عُمري تَحَوَّلَ ما بَيْنَ روحي وَ أَرْضِيَ
قَمْحاً وَ سَيْفاً يُقاتِلْ
أَنا لا أُحِبُّ المَناجِلَ
حينَ تَجُزُّ رِقابَ السَّنابِلْ
أَنا لا أُحِبُّ الضَّفائِرَ
حينَ يُعَلَّقُ في ذَيْلِها قَلْبُ شاعِرْ
أَنا لا أُحِبُّ الرِّياحَ التي تَصْفَعُ العاشِقينْ
وَ لَسْتُ أُحِبُّ الشُّموسَ
التي تَحْرِقُ الرَّاحِلينْ
لأَنِّي مُسافِرْ
وَ أَرْضي تُسافِرْ
وَ قَلْبي يُسافِرْ
(4)
تُفاجِئُني لَسْتُ أَدْري المُفاجِئْ
هُنا نَحْنُ في مَدخَل للجِراح العَتيقَهْ
هُنا أَدْخَلَ الحاصِدونَ الحَصيدْ
وَ أَحْرَقَتِ الشَّمْسُ كُلَّ البَيادِرْ
أَنا غَزَّةُ الآنَ جِئْتُ
فخذني اليك!
تَصَدَّعَ قَلْبي..
تَوَقَّفْتُ.. قَبَّلْتُ غَزَّةَ
مِنْ سَهْلِ يافا لِسَهْل العَريشْ
وَ أَبْحَرْتُ فيها بِغَيْرِ اكْتِراثْ
تَوَقَّفْتُ في دَهْشَةِ الحائِرينْ
أَنا غَزَّةُ الآنَ جِئْتُ إِلَيْكَ..فَفيمَ التَّرَدُّدْ؟
أَنا غَزَّةُ الآنَ عَهْدٌ تَجَدَّدْ
أَتَيْتُكَ في شَهْرِ آذارَ
لكِنَّ جُرحي تَمَدَّدْ
(5)
تُفاجِئُني الآنَ بَعْضُ العَواصِفْ
وَ صَوْتٌ حَنونٌ يُعانِقُ ظِلِّي وَ روحي
أُحِبُّكَ يا أَيُّها البَحْرُ
إنِّي أُحِبُّكْ
وَ جالَتْ بِصَدْري المُدى وَ الخَناجِرْ
وَ صَوْتٌ حَنونٌ مُكابِرْ
أُحِبُّكَ إنِّي أُحِبُّكْ
حَمَلْتُ جِراحي عَلى كاهِلي
وَ أَبْحَرْتُ سِراً لِكَيْ لا يَراني الجُنودْ
وَ أَلْقَيْتُ كُلَّ القَنابِلْ
فَشَدُّوا وَثاقي وَ قَصُّوا الجَدائِلْ
أُحِبُّكَ حَقّاً أُحِبُّكْ
وَ يَلْتَحِمُ الصَّوتُ.. يَكْبُرُ جُرْحي
وَ تُمْطِرُ دِفْئاً
وَ تَقْصِفُ كُلُّ الرُّعودْ
فَتَنْمو بَساتينُ عُمري
وَ تَكْبُرُ كُلُّ الحَمائِمْ
مَنْ يَدْخُلِ الآنَ روحي
يَجِدني مُحاطا بِكُلِّ السَّلاسِلْ
تَوَحَّدَ قَلْبِيَ ما بَيْنَ يافا وَ غَزَهْ
تَمَزَّقَ جُرْحِيَ بَيْنَ الرِّمالِ وَ ما بَيْنَ صَبْرَهْ
وَ يَأتي الزَّمانُ المُحاصِرْ
وَ لكِنَّني سَوْفَ أَبْقى المُسافِرْ
(6)
تُفاجِئُني الآنَ غَزَّةُ إنِّي أُحِبُّكْ
تَعَلَّقَ قَلْبِيَ بَيْنَ النَّدى وَ النَّخيلْ
وَ بَيْنَ المَسافاتِ وَ المُسٍتَحيلْ
غَريبان نَحْنُ..؟
بكيت على صَدْرِ غَزَهْ
غَريبان ِنَحْنُ..؟
وَ أَسْرَجْتُ قَلبِيَ
أَبْحَرْتُ في الذَّاتِ
أَحْرَقْتُ كُلَّ الحُدودْ
غَريبان ِنَحْنُ..؟
تَعالَيْ بِقُربي لِكَيْ لا يَرانا الجُنودْ
غَريبانِ إنَّا التَقَيْنا
كَريح تُعانِقُ طَيْراً مُهاجِرْ
فَكَيْفَ أُعانِقُ نَفْسي بِنَفْسي؟
وِ كَيْفَ أُهَرِّبُ أَرْضي وَ قَلْبي؟
فَليلي سُدودْ وَ عِشْقي قُيودْ
وَ أَنْتِ الظِّباءُ وَ أَنْتِ الأُسودْ
(7)
تُفاجِئُني الآنَ غَزَّةُ إنِّي أُحِبُّكْ
تُحاصِرُني الآنَ غَزَّةُ إنِّي أُحِبُّكْ
وَ يَمْتَزِجُ الصَّوْتُ بِالبُرْتُقالْ
وَ ياتي المُحالُ وَراءَ المُحالْ
ما بَيْنَ قَلبي وَ لون الشَّجَرْ
وَ يَرْتاحُ ظِلِّي وَ هذا الحَجَرْ
وَ نَخْتَزِلُ الوَقْتَ، نَلْجُمُ كُلَّ الدَّقائِقْ
وَ نُشْعِلُ في الفَجْرِ كُلَّ الحَرائِقْ
وَ نُبْحِرُ عِنْدَ الظَّهيرَهْ
وَ تُرْخي زَواتا الضَّفيرَهْ
نُجَدِّدُ عَهْداً مَضى
وَ نَزْرَعُ كُلَّ الحُقولِ البَعيدَهْ
زَنابِقَ بَيْضاءَ مَصْبوغَةً بِالدِّماءْ
لِتُزْهِرَ فيها عُيونُ السَّماءْ
فَتَسْقُطُ كُلُّ الشَّظايا
وَ نَغْرَقُ في الحُبِّ في الذَّاتِ بَعْضَ النَّهارْ
وَ يَعلو انْفِجارٌ وَراءَ انْفِجارْ
أُجَدِّدُ مَوْتي وَ بَعْثي عَلى راحَتَيْكِ
لأَني نَسيتُ جِراحي على بابِ روما
وَ نيرونُ يَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكْ
وَ يَعْرِفُ دَقَّاتِ قَلْبي وَ قَلْبِكْ
(8)
يُفاجِئُني الليْلُ مَنْ لا يُفاجَأْ
عَلى بابِ بَيروتَ كانَتْ حَبيبَهْ
عَلى بابِ بِيروتَ كانَتْ بِلادي
أَتَتْني تُضَمِّدُ جُرحي المُعَتَّقْ
وَ هذا الزَّمانُ الجَبانُ المُنَمَّقْ
يُقامِرُني الآنَ
بِئْسَ المُقامِرْ
في شَهْرِ تَموزَ روحي تُهاجِرْ
في شَهْرِ تَموزَ أَرْضي تُسافِرْ
تَرَكْتُ يَدي عِنْدَ سَفْح الجَبَلْ
وَ كانوا ذِئاباً وَ كُنْتُ الحَمَلْ
وَ جَدَّدْتُ مَوْتي وَ بَعْثي
أُحِبُّكِ إنِّي أُحِبُّكْ
إِنَّ الوَطَنْ
يَداهُ مِنَ الجَرْي صارَتْ مَناجِلْ
تَجُزُّ رِقابَ أُلوفِ السَّنابِلْ
وَ يَمْضي النَّهارْ
وَ يَعلو انْفِجارٌ وَراءَ انْفِجارْ
أُحِبُّكِ إنِّي أُحِبُّكْ
إنَّ جِراحَكِ جُرْحي
وَ قَلْبَكِ قَلبي
وَ أَنْتِ البِلادُ وَ نَحْنُ الشَّجَرْ
وَ أَنْتِ الشُّموسُ وَ نَحْنُ القَمَرْ
___________
نُقوشٌ بالدمِ عَلى صَدرِ الحبيَبة: من ديوان )قصائدُ مَمْنوعَة ُالتَّجوال
( الطبعة الثانية ، بيروت: مؤسسة السنابل الثقافية، 1982. ص ص 69-92.