وكبرتِ، يا عمري، سنةْ - خميس

شاركتني في كتابة هذه القصيدة الشاعرة مريم العموري ووضعتُ أبياتها بين قوسين .
***
وكبرتِ ، يا عمري ، سنةْ .
وبدأت تنتبهين لي ،
ولدمعتي ، لمَّا تسيلُ ،
وتسألين بحرقة ، مُستَبِينة .
ـ ماذا جرى لك يا أبي ؟!
ـ " لا شيءَ " ،
كنتُ أقول في الماضي ،
وكنتِ صغيرةً ،
لا تفهمينَ معانيَ الكلماتِ ،
مثلَ : مَن اليهود ُ ؟! ،
وما هي المستوطنة ؟!
واليوم تبدو لي الإجابة ممكنة ..
هم ، يا ابنتي ، من شرَّدونا ،
من فلسطينَ الحبيبةِ ،
كنتُ حينئذِ أنا في الثامنةْ
ما كان ينقصنا الطعامُ ولا الشرابُ ،
وكان للأيام نكهتُها ،
وموجُ البحرِ كان لنا ،
وأقمارُ السماءِ ،
وضفَّتانِ على امتداد النهرِ ،
كنَّا طيبينَ وحالمينَ ،
ولا نخاف من الغد الآتي
وننعم بالسكينة والحياة الآمنة ..
..
((كنا نرتـّل مع هديل الطيرِ ..
فوقَ الغيمِ أحلامَ الربيعْ
ونوزِّعُ الضحكاتِ للدنيا
فترقُصُ سنبلات الحقلِ ،
يرتَبِكُ القطيعْ .
ونظل نركُضُ ،
والنسيمَ على بساطِ الوردِ ،
ما أحلاهُ ما أحلاهُ من ماضٍ بديعْ .
ماض يمرجحني كطفلٍ ،
ليس يعبأ بالمشيبِ ،
وبالهموم الراهنة .))
...
كنا صغاراً .. والطبيعةُ فاتنةْ .
وكعهدها دوَّارة كانت
وما زالت هي الدنيا ،
تدورُعلى مدار الأزمنةْ .
وكأنَّ ما قد كانَ ،
أروعَ كانَ ، من أن يستمرَّ ،
كأنَّهُ حُلمٌ جميلٌ وانقضى ،
وعلى الحياةِ هناكَ كانت ،
دون باقي الناسِ ،
تحسدنا الحياةُ ، وعُزَّلاً ،
كُنَّا نواجهُ ، ذات يومٍ ،
قوةً متصهينةْ .
وتقاسمتنا الأرضُ والحيتانُ ،
صرنا لاجئينَ ونازحينَ ،
وطاردتنا الذكرياتُ إلى المنافي ،
يا ابنتي ،
وتقاذفتنا الأمكنةْ ..
خمسون عاماً في الشتات وشعبنا
لم ينس يوماً موطنه .
..
((خمسون عاما يا ابنتي
والدار أطلالٌ هناك بلا أنيسٍ
غير ولولةِِ الرياحْ .
من بعد أن رحلت
طيوف المبعدينَ بلا رواح ْ
لا همهماتُ أبي ولا
تسبيحهُ عند الصباحْ
لا كُحل أمي،
لا صبايا يجتمعنَ على الغدير ِ
ولا رجالٌ يبذرون الأرض ،
من رُوحٍ وراح ْ
أرض تتوق لمنجل الأحباب ،
في يوم الحصاد ِ
ولا حصادَ سوى الجراحْ
خمسون عاما يا ابنتي ،
منذ استباحتنا الضباعُ الماجنة
مذ هبت الريحُ الغريبةُ بالجراد ،ِ
وأيُّ ريحٍ منتِنة
خمسون عاما يا ابنتي..
نبقى
وإن لم تبق من آمالنا
إلا المفاتيحُ القديمةُ
والقلوبُ المؤمنة))
...
واليومَ ، تُقتلُ طفلةٌ ،
يُغتالُ شيخٌ مُقعدٌ ،
تُمحى قرىً ،
تُجتثُّ مزرعةٌ ،
وتُقصفُ مئذنةْ .
والعالم المجنونُ غافٍ ،
لا يحرك ساكناً
وكأنَّما ضُربت عليه المسكنةْ .
مَن جنَّنهْ .؟!.
فغدا يرى الجلاَّد مثل ضحيةٍ
والصمتُ أصبح ديدنه ..
..
وكبرتِ ، يا عمري ، سنةْ .
وغدت وصايا الراحلين لربهم
أحلى كلامٍ تَنْشُدين سماعهُ ،
وغدوتِ مثلي مدمنةْ .
تترقبين سماع أخبار الذين نحبهم
تأتي لنا
بدم الشهادةِ والفداءِ معنونةْ ..
وعرفتِ ما معنى " الإرادة ِ"
و " التحدي "
و " الغضبْ"
وعرفتِ مَن هو ذلك الشعبُ الذي
صنعتْ يداه المعجزاتِ و معدنَه .
وعرفتِ ما معنى " الجهادِ "،
عرفتِ ما معنى " البلادِ " ،
عرفت ما معنى " الحكومةِ " ،
في قواميس العربْ .
وعرفتِ معنى : " خائنةْ " ..
..
((وعرفت معنى الغدر مهما
زوّقوه بجرحنا
وعرفتِ كل المُترَفين بحقنا..
وشقائنا..
الغارسين بلحمنا أنيابَهم وبلا خجل
من قبّلوا الأقدامَ حتى
ملّت الأقدامُ هاتيكَ القُبلْ
هم يا ابنتي ألِـفوا الوضاعةَ
والقماءةَ ، والدَّجل .
فبرغمهم
وبرغم كل الخاذلين لعمرنا..
وبرغم أعوامِ التشرد والتمزق والضنَى
وبرغم من قالوا سننسى
كيف ننسى روحَنا؟؟
..
ستفرُّ من أضلاعنا للنور أحلى سوسنة
ويميسُ فوق البحر مركبُنا
تقبـِّلنا النوارسُ
نرتمي في حضنها
ونغيضُ في دفء الهنا
يا وعدَنا
وسنمتطي فرسَ الهوا..
فوق المدى والمنحنى
فوق المدائن مذ تحرَّر فجرها
بدم الشهيد وبالقنا..
سنعود ..
إنا ما نسينا يا حبيبة ما لنا..
فإذا قضيتُ ولم أطأ أرضي هناك
فلا تـَنِي ،
ولتكملي مشوارنا))
سنعودُ
إنَّا نسجنا من دمانا فجرنا
سنعود مهما شيَّدوا
مستوطناتٍ حولنا
((سنعود رغم حصارهم ))
سنعود رغم جدارهم
((ستفرُّ من أضلاعنا للنور أحلى سوسنةْ ))
وستنتهي عمَّا قريبٍ ،
رحلةُ الطيرِ الذي
لفَّ الفضاءَ وعاد يَنشُدُ مسكنه .
طوبى لنا ..
((طوبى لنا .. ))
طوبى لمن عشق الترابَ ولوَّنهْ .