خطبة أعالي الليل - عزالدين المناصرة

يا شقيقَ الصباحِ،
أيها الليل ... يا ابنَ الغروبْ
لستُ شجرةً،
حتى تتفيأني العصافيرُ الشاردةُ،
كان الطخّ يفرقع، كالفراق ﻓﻲ قلوبنا،
حين عادوا، بسراويلهم الممزّعة،
تركوا أحذيتهم،
قربَ سماءٍ صفراء، بلا كبد.
أما نحن المحتشدين، كالغبار
فقد مددنا ﻟﻬﻢ، ألسنتنا،
توالت البصقاتُ من أعيننا
على أقفائهم المرطرطة من التعب،
ﻟﻢ يحرّكوا ساكناً،
ﻭﻟﻢ يشكّلوا حرفاً من الأبجدية
تلك حالتهم، بعد نجيع الدم ﻓﻲ الصحراء.
لستُ خبّازاً ﻓﻲ مديرية الليل
كي أسرق لكم، خبزاًَ ساخناً من الطابون
ساخناً كقلوبهن التي انكسرت كالفخار.
تلئمنتِ الريحُ عليهم، فبكوا
كثيرةٌ مشاغلُ الريح الدموية:
1. تُبلّلُ أرواحَنا المضطربة،
حين تطقّ أعصابُنا من الصَهْد.
2. تثير مخاوفَ الرملِ الأصفر
ﻓﻲ الزمن الكَعْكبانيِّ
حين يشعر بطمأنينة الحجر.
3. تستفز الطيور الليلية، فجراً
كي تنقّبَ عن بذارٍ لفراخها.
4. ترمينا، بفُتاتِ العتاب، إن أخطأنا.
5. تلسعُ نؤومَ الضحى، ﻓﻲ فراشها الوثير
6. تلقّح الأشجار، بطلْعِ المودّة.
7. تُصفّرُ كشرطي،
حين نقطع العلاماتِ، قبل الأوان.
8. شرقية، ترتجف منها القناديلُ،
كعجوز، تحت خروبةٍ مشقّقة.
9. تقول ريح السموم:
احصدوا بذورَ آثامكم،
كقطيعٍ، ساعة الندم.
10. مهما قالت الريح الصفراء عنّي،
سأسامحها، فهي لحمي.
11. العواصفُ، ابنة الرياح،
والندى، طفلةُ السنونو.
12. حين نكون ﻓﻲ دهاليز القلاع السوداء
تنجنُّ الريحُ من صفير الساحرات.
المطر الغربي، دلالةُ المتوسّطِ الشرقي،
الريح الغربية، سُمّيتْ هكذا،
لأن الريح الشرقية، ولدتْ قبلها.
13. تدقُّ الأبواب،
حين يغيب الأحباب،
ﺃﻟﻢ نقل لكم ذلك، قبل السلام المُخنَّثْ
تظلّون أهلنا، مهما اختلفنا على التأويل.
14. حين تُمصمصون العظامَ،
تذكّروا، عظام أحبابكم، تحت الرمل.
15. سأترك الريح المنحوسة، تكملُ مشاغلها
إذ بقي للريحِ، أن تبكي على الخيول
على ركام أحبائنا، المتناثر ﻓﻲ الريح.
- ﻟﻢ أكن وديعاً، كي أسامحكم،
وأنسى،
أحتاج لنهرٍ من خمر المرارات،
لحورياتٍ من كريستالٍ وزبيب،
لمصنعٍ من دخان الأعصاب،
لمئاتِ الندّابات،
لبرميلٍ من عصير الشيح والجَعْدَةْ.
أيها الليلُ الذي كان طويلاً على امرئ القيس
ها أنت، لا تتموَّج، كالبحر العتيق،
لا تتقلّبُ كالأرامل، والمنفيين،
على الأسرة الخشنة، والوساوس،
وحيداً، تنهشُ لحمكَ الأفاعي الأخوية
ثوبك مسمومٌ،
مغروزةٌ حراب الروم، كالليل ﻓﻲ عينيك.
أيها الجياعُ، بأسمالكم البالية:
كنيسة الزيتون، لن تطعمكم زيتوناً.
مريومة يا مريومة يا مريومة:
أيتها التلحمية، يا جارة الخلايلة الطيّبين
بذرتك، بلا تهليلةٍ، يلاحقها المجوس.
سيدي، وجاري، وابن جبالي
يشقّ أبواب مريام ﻓﻲ موكب الفراشات،
على رأسه، سعفٌ وطيورٌ ونصوصْ.
مريومة يا مريومة
يا ابنةَ العنبِ الدابوقيّ،
انشري عطرك على شجيرات الجفاف
يا دائمة الخضرة، كزيتونة روحي،
روحي ﻓﻲ أعالي شجر السنط،
النساء ينشدن أغانيك، قرب البلّوط:
1. قلبي أبيض، أبيض، كبفت الموتى.
2. طفلي، يختبئ بين العوسج والزعرور،
ﻓﻲ بطانات السفوح الغربية،
حيث تتناثر الأديرةُ والروح.
3. دثّروهم بأعواد النعناع التي ﻓﻲ القُفِّ،
ﻓﻲ بريد البحر الحي.
4. غطُّوهُمْ بصهيل الجياد،
بوشم البدوية، بقلائدها الحمر، كالنيازك
بأعشاب الإشارات ... والرموز.
5. أيتها الراعيات البريّات
خَبّئنَ قلبي، ﻓﻲ مغاور قلوبكن،
مطاردون، مطاردون، مطاردون
فلينفلق العسكرُ من أسئلةٍ، بلا جوابْ.
6. كان يقول ﻟﻲ: يا هذا
انظر ﺇﻟﻰ أعالي الليل
فأقول له: يا هذا
ﺇﻧﻬﺎ ذوائب الصفصاف.
7. كان يقول ﻟﻲ: يا هذا
انظر ﺇﻟﻰ حمرة الينابيع،
فأقول له: يا هذا
ﺇﻧﻬﺎ منحدرات الدم.
8. كان يقول ﻟﻲ: يا هذا
انظر ﺇﻟﻰ سرادقات اليتامى
فأقول له: يا هذا
ﺇﻧﻬﺎ أعراس وطبول وفوانيس.
9. كان يقول ﻟﻲ: يا هذا
أقطع ذراعي، إن ﻟﻢ يصلوا
فأقول له: يا هذا
سوف يجيئون أسرى.
10. كنفلٍ على طريق القارعة، مرميون
أطعموهم عسل التعب، وقرنفل الحرقة.
- لستُ وردةً حجريةً ﻓﻲ الصحراء
كي أصف لكم رسوماً، نقشوها ﻓﻲ الصخرِ،
كي أكتب أبجدية المغاراتْ
قلت ﻟﻬﺎ: حدّقي جيداً ﻓﻲ المساء،
حدّقي جيداً ﻓﻲ بقيع الخوف المشرّش فينا:
- الزجاج الأبيض، بطلاء أزرق.
الزجاج الزهري، بطلاء برتقالي داكن.
الوجوه البيضاء
تتعفّر برماد الأثافي.
النساء الورديات، بالقصدير.
النساء الكحلاوات، كحقول الصعيد
زينتهن سِخامُ القدور.
الفتيات اللواتي غرقن – حتى ضفائرهن،
ﻓﻲ نرجس الماء
ركلوهن، حتى امتلأ القبو بالجثث.
رأيتُهنَّ من ثقوب هواجسي،
لكنهم ﻟﻢ يصدقوني
رخام منازلكم الأبيض،
شخبطوه، بأقلامكم السوداء.
شموعكم، كهرباء دهن الخنازير
تنقطونها، قطرةً قطرةً، كدموعكم، وتبتهجون،
أشجاركم، ورق تستوردونه، لتوزيع سمومهم
وتبتهجون.
قصائد البياض
املأوا فراغاتها بالطين والإسمنت.
اكسروا قوافيكم
ليس العتيقُ دائماً، نبيذاً،
أوزانكم، ليست لكم،
كفى صهيلاً على قبور الأجداد.
اليافطات الحمراء الملتهبة،
لا حاجة لاستهلاك الكلمات المسمومة،
وعوداً تبقى ... ولن تقع.
وفّروا يافطاتكم، أكفاناً، لذلّكم الطافح،
كي يصبح الموت مُبَجلاً ولائقاً
لا تموتوا كالبعران، ﻓﻲ أقبية التردد.
لو كنت أملك مزرعةً للأفاعي
لسمّمتهم وزيراً، وراء وزير
حربهم انتهت ﻓﻲ عصير القنب، والخشخاش،
ﻓﻲ ليلة الأفخاذ، والكؤوس،
عندما كان الغلابا، يتجرعون غضب الصحراء.
أيها الليل المعظّم،
حدائقك ينغل فيها، الدودُ والقيح،
أطفئ النور، يا ابنَ الكلب،
هل هناك نور لأطفئه، يا أبناء الخنازير؟؟!!
هل تركتم شعاعاً واحداً لنا
شقفةً واحدةً من ضوء بساتين الصباح
البحر الذي كان يعفس بقدميه الطمي
البحر الذي كان طازجاً، كدرّاقة ندية
صار جيفة آسنة، تعافها الجراذين.
الحاراتُ التي كان منها، يعبق الفلفلُ والبهار،
صارت تبيع الجراد، بأنواعه.
الأغاني التي تعجّ بجيوش الاستهلاكْ
علينا أن نسمعها، وأن نتجرعها، كالقيء.
الخطب التي كانت تغوي المارة
صارت بلا رصيدٍ ﻓﻲ البنوك.
الدروس التي تُلقى ﻓﻲ الجامعات
تليق بالكتاتيب، ومحو الأمية.
القصائد التي تمدح الأشرار،
ابتلعها الحبر الذي صار بحراً من الأرق.
الفَقَماتُ التي تهيأت ﻓﻲ منتهى زينتها
َنفَقَتْ على سطوح التموجات.
المقاهي التي نذرنا ﻟﻬﺎ الليالي
خفتتْ ﻓﻲ ذهول اللغة العمياء.
الصحفُ ذات المانشيتات البرتقالية
صارت تومي لحريقٍ قادم، ضد مالكيها.
أية مدينةٍ تجرؤ على الاحتفال بالولادة
ليس هناك سوى أعالي الليل.
غداً تبدأ محاكمات الهامشيين
حتماً، سوف يجدون قرابين للنهر،
يهدونها،
يهدونها عروساً عجفاء،
كنعجة أصابها الجذام،
للماء والنار، يهدونها،
ﺛﻢ يصفقون لانتقام يوازي الخديعة.
أيتها الغربان
أيتها الغربان، تعالي ﺇﻟﻰ حدائقنا
لنغني معاً، ما يلائم حشرجتنا الأخيرة.
علينا إذنْ
أن نرش الطرقات بحامض النار
علينا إذن أن نستبدل بأغاني الصباح،
تهاليل النعاس الذي ما بعده صحو.
علينا إذن أن نشرب الخروع والشيح
أن نفترش الصحراء، بدواً بلا قناديل
نتدثر بالجماجم، عند أقدام الليل.
أيها الليل العالي
كم أزلٍ، نراقبُ، حتى لا نرى آثامنا.
أيتها السروة الغالية ﻓﻲ العزلة
اتخذيني وسادةً لدموعك التي تهرّ كالفراق.
أيها الثلج الأبيض، كنقاء قلوبنا
لا تتبللْ برذاذ غابات التيه،
أنت بوصلة البدء، حيث انفجار التردد،
أيها القنفذ المتكوّر، كقنبلة، بلا فتيلْ
لماذا أشواكُكَ ملساء، على طاولة المفاوضات!!
أيتها الريح الجنوبية،
لماذا أنت دوماً شمالية؟!!!
أيتها الغجريات الموشومات بعروق الأغاني
لماذا صُنوجكنَّ لا تلد الصهيل.!!!
أيها البرلمان البريُّ الأخضرْ،
لماذا أنتَ، كالطحين على شجر العوسج!!
أيتها القصيدة المنثورة، كالفلسطيني
لماذا تحنّين للوزن والقافية، كالمديح؟!!!
- ها هم، ورودٌ ذابلة كالأماني
يُلملمون أشلاءهم، وإذاعاتهم، وصداعهم المزمنْ،
كي يصوغ الأوغاد، مرثية الضوء
ها هم يُشرّعونَ لقبائل الكلام.
منذ الآن: احفروا مزيداً من القبور
معاً ندفن الذل، ونكلّله بأكاليل الغار.
غداً، يقتسمونكم على الطاولةِ،
حِزّاً، حزّاً،
ويلتهمونكم، كقواقع الجزر البحرية
إذا ﻟﻢ تنشدوا معهم، نشيد أعالي الليل.
- سأركب فرسي البرتقالية،
أبحث عما يصلني برذاذ الليمون.
سأركب حصاني الأخضر،
أبحث عن عنب قلبي.
سأركب فرس الفراسة،
أقتفي آثاراً على الرمل، ﻟﻢ يرسموها
أبحث عن قناديل، ﻟﻢ يُدجّنوها بعد.
سأركب قارباً من خشب كنعان،
أبحث عن جزر الكتابة المنسية
أواصل الدندنة على عودي
ﻓﻲ خرائب جفرا التي قيّدوها بالسلاسل
ﻓﻲ مغارات الخوف الطحلبي
أخاف عليك من الوحوش ذوي القربى.
سأركب فرسي الحجرية
ألملم أجزاءَكِ المتناثرة ﻓﻲ الريح الفاسدة.
ﻟﻢ يبق ﻟﻲ،
غير التفتيش عن خارطة الرموز،
عن العلامات التي تدلّني عليك.
أعيد سبكك، كنجمة وضّاءةٍ، كالخيار الجبلي
أواصل السُرى ﻓﻲ أعالي الليل
كلما غنيت ﻓﻲ الوحشة، اطمأن قلبي.
أرى الشمس، وراء قطعان الغيوم
أيتها الحقول الحزينة من أجلي
أي مكان، ﻟﻢ تطأه بلاغتي
أيتها السرخسيات التي تنمو ﻓﻲ الضوء الأسود،
أمر فوق حصاني الأكحل
أرفع قبعتي ﻓﻲ ظلال النوم
أكتشفك بعصاي، رغم الحلكة
أغرزك فوق الجسور، عند مفارق الطرق.
الأيل يراقبني، ويراقبكم
هل ترتخون لمصائر خارطةٍ، حدّدوها لكم
أو، أن ترتجف الذرّات، تحت أقدام رغباتكم.
حتى ذلك الحين،
احفروا، احفروا، لمزيد من أشجار الزبد،
لمزيد من خطب الليل،
أيها الليل العالي، كأعالي الليل.