القبائل - عزالدين المناصرة

أيُّها الفتى المزيّن بالعُنفوان، كما الفراشة
عندما لا يبقى أحدٌ بين الصخور
لنتكلم ببساطة مثلما أنت وأنا:
في هذه الليلة سقطت نجوم كثيرة. (بابلو نيرودا)
-1-
مَنْ مُجيري إذا طاردوني، وكانت شعاراتُهمْ واحدةْ:
- ذاتَ يوم، يجيئكِ صوتي، وتهتزُّ روحي، كما الماء في سفح عيبالَ،
يخترق الرمل والريح، ينشر عطر حبيبي على مُدن الحبِّ،
هذي البراكين يوماً تثور، ويصبح هذا الرمادُ حَجَرْ.
إنَّه ديمةٌ سَمْحَةٌ سوف تجبرُ غيلانها أن تُوقّعَ فوق جواز السَفَرْ.
ذات يوم يجيئكِ صوتي، وتعترفين بأنّي تمرمرتُ من أجل عينيك،
من أجل هذا المَطَرْ.
صِحْتُ خلفي: خيولُ القبائل خلْفي، وخلفي الصهيلْ.
-2-
حين تجيءُ الشمسُ ﺇﻟﻰ الباب الغربيّ أقول: يهلُّ شباطُ الخبّاطْ
أرقبُ قافلة الآراميّينَ، وقافلة الأنباطْ
أرقبُ سور الحرم القُدْسيِّ، وباب الأسباطْ
وكذلك علّمني الوالدُ أنَّ الأمكنة حنينٌ، نهرسُهُ، لكنْ يبقى
فاحفظ يا ولدي ﻓﻲ قلبك، بعضاً من ماء العينْ
تنفعك الذكرى، حين يحوم على رأسك طيرُ البينْ
ﻓﻲ لحظةِ عدمٍ من زمن الإحباطْ.
-3-
آخر الليل، حتماً تجيءُ الخليل إليَّ على شكل طفلٍ،
يفجّر ﻓﻲّ، شقاوتَهُ، وأنا ساهمٌ، والمقاهي هنا عَلّمتني السَهَرْ.
صحتُ: إنَّ الخليل رماد، ترونَ،
ولكنّها،
عندما يبلغ النهرُ أعلى الجبالِ، تكون الخليلُ،
رعوداً مجلجلةً،
ﺛﻢَّ برقاً،
تكون الخليل شَرَرْ.
صحتُ: إنَّ الخليل صخورٌ تثور، وحَوْرٌ يرفرفُ،
يحرسُ عين الخليلِ،
فمن ذاق طعم الخليلِ،
ﻭﻟﻢ يحرس الماء مثل المطاريدِ،
معناهُ أنَّ التراتيل باطلةٌ والدعاء ﺇﻟﻰ اللهِ،
لا يُستجابُ، ومن ﻟﻢ يُحِبَّ جبال الخليلِ، كَفَرْ.
-4-
قَدَمٌ ﻓﻲ الريحِ ﻭﻓﻲ التابوتْ
قَدَمٌ أُخرى ﻓﻲ بيروتْ
قلبي ﻓﻲ المنفى، يا باجسُ، يخضرُّ قليلاً ويموتْ.
العودةُ عن نبع قرانا ﺇﺛﻢٌ،
والغربة غولٌ مشبوهٌ، والمنفى ثرثرةٌ وسكوتْ
قَدَمٌ ﻓﻲ الريح، وأخرى ﻓﻲ بيروتْ.!!!
-5-
طالعٌ شجر الحبّ،
إيقاعُهُ ﻓﻲ دمي، والعيونُ تحاور هذي الصخورْ
المغاورُ مأوايَ، روّضتُ هذي الوحوشْ
للمنازل ضوءُ القناديلِ ﻓﻲ العرس، رغم حراب الثغور.
كان ﻟﻲ ﻣﻨﺰﻝٌ، غير أنّي القريب البعيدُ، البعيدُ القريبُ الذي
يتشوَّقُ نار الجبال، ومريمُ ﻟﻢ تأتني بالطعامْ
هل ترى يا تُرى، عسكرُ الليل قد أوقفوها على تلّةٍ،
قرب وادي الزهورِ،
مذابحُ أهلي، حصىً وقبورْ.
-6-
سأُشبّهُ كلَّ الأشجارِ بأشجارِكْ
وأُشبّهُ قافيتي الموزونة،
مشيتك المختالة ﻓﻲ حقل الذرةِ،
أُشبّهُ أبياتي، بجميل إزاركْ
وأُشبّهُ عينيك بِلَيلٍ حالكْ
أشبّهُ أحجار المنفى
أشبّهُ أرصفة المنفى
أشبّهُ حانات المنفى
أشبّهُ أضرحة المنفى
أشبّهُ أسوار المنفى
وأنادي ﻓﻲ الناس، وأصرخُ ﻓﻲ زمن التيهْ
سأُشَبّهُ، حتى يذبحني التشبيهْ.!!!
وأقولُ لفهدٍ ولراسمْ:
زمنٌ يأكلُ منّا العظمَ،
أقول بأنَّ الرعب يدبُّ بأوصال العالمْ
لكنْ ما إنْ تبزغ شمسُ السهرةِ، حتّى
حتّى يغسلنا مطر التذكار الحالمْ:
يقرأ هذا صفحاتٍ، (( بخصوص الجملةِ ...)) عن لينينْ!!!
ويغنّي هذا أبياتاً من مرثِيّة مالِكْ
سأشبّه روحي يا باجسُ، بشظايا الدور.!!!
- جاءتْ ﻟﻲ ﻓﻲ آخر هذا الليل الموحشِ،
تركض كالطفلة، ما بين اليقظة والنومْ.
تحمل ﻟﻲ مخلاةً من زادٍِ،
ألقتْ ﻓﻲ الوجهِ سلاماً وجبالاً من لومْ.
باجسُ ما زال يحاور صخر الوعر، فتنبجس الأصواتْ
يتغزّل بالدالية المغرورةِ، يتمختر ﻓﻲ الطرقاتْ
يطلع ما بين الزهرة والنحلة، يحمل شارةْ
يطلع ﻓﻲ الليل، يلاعب أطفال الحارةْ
ويغني الفلاحين، يُسلّيهم ﻓﻲ حقل الذرة الصفراءْ.
جاءت ﻟﻲ ما بين اليقظة والنومْ
أشجار البُطمةِ ﻓﻲ ذيل الثوب العِنَبيْ
الحرقةُ ﻓﻲ القلب، الغضب العارم ﻓﻲ الأسواقْ
وتقول: زمان الوصل يجيءْ
ﻓﻲ قاع سحاحير الدُرّاقْ
قالت ﻟﻲ: كان فخوراً فوق الأعناقْ
جاءت ﻟﻲ ما بين اليقظة والنومْ.
أعرف أنَّكَ تعرف كلَّ خرائبنا،
ودخان طوابين قُرانا،
وتعانقها الآنا.
سأزور القبرَ، قرنفلةً حمراء سأُلقيها
هذا وعدٌ، كلّ قرانا ومدينتنا تخرج ﻓﻲ العيدْ
لتزورك حين تطلّ عصافير الفجر،
تكون استيقظت من النوم السحريْ
ومددتَ يديك لنا بالزعتر والحنّون البلديْ
تُهدينا داليةً من نورٍ وَهَّاجٍ، وقمرْ
وسنهديك هدايا: علماً، خارطةً كاملةً، وجواز سَفَرْ.!!!
-7-
هائمٌ والشوارع خُفّي
وبعضُ القبائل تسعى لخلعي عن الوصل بالأرضِ
والناس واللغة الماجدةْ
هائم ﻓﻲ الشوارع، بعض القبائل، كلُّ القبائلِ، ترفع لافتةً واحدة.
مَنْ مُجيري، إذا طاردوني، وكانت شعاراتهمْ واحدة.!!!
الموازينُ هُمْ
البلاغات همْ
المسافات همْ
الطواويس همْ
وَهُمُ الموت ﻓﻲ ليلةٍ باردةْ.
هُمْ رماد بلادي، هُمُ السجن والقبر والشاهدةْ.
الخرابُ هُمُ،
الجذور النبيلة حين تثور، سيصدر عنهم بلاغٌ وراء بلاغْ.!!!
هكذا
أصبحوا
حانةَ الأجنبيِّ،
يُضاجعهمْ ﻓﻲ الدماغْ.!!!
من مُجيري، إذا طاردوني، وكانت شعاراتهُمْ واحدة؟!!!
- نحنُ صوتُ التراب الممرّغ بالدم والحزن حتى النُخاعْ
نحنُ وهْجُ القبائلِ، نحن البحار التَصُبُّ ﺇﻟﻰ بركةٍ راكدةْ
نحن من يقرؤون الكتاب، لهذي الشوارع والمدن الجاحدةْ
نحن جوع الجياعْ
نحن هذا الزمان اليُطِلُّ عليكمْ، ونحنُ سراجُ القبائلِ،
نحن الشُعاعْ.
-8-
فلتَنَمْ، أيها الطفل، إن سماء الخليل سَماكْ
فلتنمْ، ... الطيورُ صباحاً تعودْ
بلّل اللهُ قبركَ، إنَّ الندى ﻓﻲ المساء كثيفٌ،
دخانُ الطوابين أشهى،
وراعيةُ الماعز الأسمر المتراكض - حتماً تراكْ.!!!
كان طفلاً بريئاً، يحبُّ الزراعة ﻓﻲ التربة البكر،
يكرهُ ريحَ السَمومْ
كان سيفاً وبستانَ لوزٍ، وصوتَ غَضَبْ.
كان باجسُ ﻓﻲ زمن القحط، سدّاً بوجه السوافي
كان طفلاً،
يُقلّمُ عُنْقَ العدوّ، ليزرعَ ﻓﻲ السفح حاكورةً من عنبْ.
نحن نعشق هذا القمرْ
نحن نشتاقهُ الفجرَ والظهر والعصر والليلَ...،
مَنْ ﻟﻢ يُحبَّ جبال الخليلِ، كَفَرْ.