رذاذ اللُّغة - عزالدين المناصرة

أُحدِّق ﻓﻲ النصّ الرصين، كأجدادنا
كلُّ لفظةٍ مُلَوّنة بالكحل، يرفعونها
يرفعونها على أعلى الهودج،
يزفّونها بالطبول والأهازيج،
يقولون ﻟﻬﺎ: تباركتِ، فتصبحُ مباركة،
ثمَّ
ينسون أنَّهم من قال ذلك،
كانوا طَيبين ﺇﻟﻰ درجة الهَبَلْ.
حين أتدحرجُ من أعلى تلهّفي،
أجدهم عادوا، ﻭﻟﻢ يصلوا قمة الشبق،
كالبراميل الفارغة،
يتدحدلون على ظهور الخيل المُطهمة،
تُنهر بالأقدام والكرابيج.
- لا يتحرّك الساكنُ فيهم،
إلاّ إنْ حرّكهم، عن بُعدٍ:
مقطوعُ لسانٍ،
أو مجدوعُ أنفٍ،
أو سيّدٌ غريبٌ،
فلمن أشكو؟!!!
إن كان الوأدُ اللغويُّ، يتمُّ صباحاً.
حين تكون التفعيلةُ غاضبةً ﻓﻲ الغابة،
التفعيلةُ، مثل عروسٍ، تتجلّى،
ﻓﻲ ليلة دخلتها الأولى،
فأقول هنا أجد أصلي، وفصلي، وشجرة عائلتي
لكنْ ... حين أغازلها،
أتمحَّكُ بين جدائلها،
أجد التفعيلة، مثل مُجرّبةٍ، سئمتْ أيام الفتنة،
أجد التفعيلة، مغبّرة ﻓﻲ رفوف القاموس،
أشعر أن مفازاتٍ وطحالب بحريّة،
توقف تدفّق رغباتي،
أشعر، أنني لا بُدّ أن أدفع ثمن المهارة.
أنظرُ للإيقاع السريّ بين علامات الترقيم،
بِشفقةٍ ملغومةٍ بالحقد،
حين يكون النصُّ تراكيب كارتونيَّة،
نَصٌّ بلا لغةٍ، أو قنديل، أو سراج غولةٍ،
بلا قنافذ، ولا نوافذ، وبلا أحجارٍ كريمة،
ﻟﻢ يتبلّل برذاذ البحر.
حينئذٍ،
يحقُّ لحبَّة تينٍ مثلاً،
أن تغتسل مساءً بأغاني السنونو،
ويحقُّ لشمسٍ لاهبةٍ، أن تغطس ﻓﻲ النبع،
يحقُّ للظلال الرماديَّة، أن تكون شمالية،
يحقُّ لفتاةٍ أن تمشّط شَعْرها القرنفلي،
ويحقُّ ﻟﻲ أن أبكي وحدي، دون حسابات الربح.
- الذوبان، هو الذروةُ ﻓﻲ قاع البحر،
الأصلُ رذاذكِ، حين نُكسدرُ معاً مشتبكين،
على شاطئ الدهشة النهريّة.
أو أن نتراكض ﻓﻲ غابات اللغة المشتبكة،
أو حتى ﻓﻲ غرف الفندق:
(ألعبُ باللغة، كبدويٍّ ﻓﻲ المدن الكبرى
مثل خليليٍّ، أو حِمصيٍّ ﻓﻲ طوكيو،
ألعبُ باللغةِ، أصهرُها، وأُنقّيها،
مثل العمّال ﻓﻲ مصانع الحديد والصُلْب ﻓﻲ حِلوانْ،
أمسكُ بالمخطوطات المشبعة بالتكرار،
أنعفُها ﻓﻲ النهر، مثل هولاكو).
أتأملُ لذّةَ التأمل، تحت الصفصافة، كالعصفور،
حين يكون الورق الأخضر، تحت بطانتها،
أبيض، مثل زبيب مخفيٍّ عن عين الشمس.
أو،
أركضُ باللغةِ، كما يركضُ الرعيان ﻓﻲ الوديانْ
أرسمُ وشم قبيلتي، وعلاماتي، ودخاني
على أغنام اللغة البيضاءْ
أمسحُ السطور، إن كانت غامضةً،
أوْ ... إن كانت واضحةً أيضاً،
وأصنّفُها، ﺛﻢَّ أفكفكها، ﺛﻢّ أعرّيها من سحري
أطارحها الغرام، ﻓﻲ ظلّ عوسجةٍ هرمةْ
أوْ
أختارُ مكاناً مَذْرِيّاً ﻓﻲ غابة قصب النهر:
البعضُ يفضّلُ، مقهىً ﻓﻲ حارة البحر العتيقة،
البعض الآخر، يهوى الورقَ المفتوح،
كيما يُضلّلَ الفيروزابادي، وابن منظور.
فإن استجابتْ ﻟﻲ يا هذا، دون موانع،
كان بهِ،
لكن إن رفضتني،
أعطيتُ ﻟﻬﺎ، موعداً ﻓﻲ دفتر ملاحظاتي،
لا بأسَ بأن تزعم، أنَّ مواعيدك مزدحمة،
لا بأس ... ومن أجل التضليلْ
أن تشرب نصف الأقداح،
أو أن ترمي سيجارتك، بعد أول شَفْطَة،
لا بأس ... ولكن،
اترُكْ بابكَ مفتوحاً للقاءٍ مفتوحْ
حتى لا تعتقد اللغةُ، بأنَّك عاشقٌ مبتذلٌ،
حين تقابلها ﻓﻲ خلاءٍ مغلق،
حاولْ أن تسترخي،
فكِّكْ أوتارك، والأسنان الفضيَّة،
اُتركْ للروح، حقولها الشاسعة،
أمّا حين يلتفُّ الساقُ على الساقْ،
وتصرخ اللغةُ الجامحة بحرقة،
لقد عصرتني، ﺑﻤﺎ فيه الكفاية،
قُل للمُهرة: لا حدود لألفاظي،
لا عقباتَ أمام اندفاعاتي، وصراخي، وتقلّباتي،
أنا الفتنة الكبرى، والحدُّ الناري،
أنا شهيق الرغبات المُرَّة،
أنا غضبُ البحر، وموج الأعالي،
شهيداً ﻓﻲ بحر اللغة، أسقط من فوق حصاني،
رغوةً تنجب قمراً كنعانيّاً، قُدّام الدار،
فيه خصائصكِ الأرضية، وفيه عناصر أوهامي.
- فلنكسرْ هذا القوسْ،
ولنفتح أُفقاً، يتهدّلُ، مثل ضفائركِ السودْ.
قالت ﻟﻲ: يكفي كذباً يا هذا، وادخلْ ﻓﻲ الجمْلةِ،
دون مقدمةٍ، وبهارٍ، وتوابلْ.
ودخلتُ حديقتَها، كرذاذٍ، قالتْ:
أَ ... وَ ... لستَ القائلْ:
...
فانفتح البابُ المسدودْ.