الخروج من البحر الميّت - عزالدين المناصرة

كعشب البراري أنا،
نديٌّ كتفاحة الغيم، أسبحُ ﻓﻲ لُجَّةِ الكهرباءْ
حنونٌ كوحشة طفلٍ، رأى أمَّهُ الغائبة
تشعلق ﻓﻲ ذيل ثوب الحزينةِ، فانكمش الأرجوانْ
على قبَّة الصدر، واندلع الأقحوانْ
على ساحل النهر، شفتُ طيوراً تنام.
رأيت قطيعاً من الحور، كدتُ أقولْ:
نساءُ أثينا اغتسلن على العين مثل العناقيدِ،
قرب غيوم الصباح
ركضن ﺇﻟﻰ طاولات المصيفِ،
اقتلعنَ الأسى من جبين الكلام.
ﻭﻟﻢ يكن البحر منتبهاً لأغاني الحمام
رأيتُ المدى زرقةً مثل فتنةٍ راعيةٍ،
ﻓﻲ سهول الشآمَ.
تلاحق أغنامها الشاردات من الطخِّ،
بين الصخورْ
فراشاتُ قلبي، حصى الماء ﻓﻲ الليلِ،
بلّلهُنَّ الحبورْ
رَماهُنَّ سيلٌ ﺇﻟﻰ الرمل قبل الهجير
توسَّدْنَ ساقيةً، ثمَّ ناغشن سرب يمام
توسَّدن بحَّةَ هذا المغنّي الجريح
أراهُنَّ قرب نجيل المساء
يُبايعن غزلانَ بريَّة الله / ثمَّ جلسن هنا /
على شاطئ البحر مثل زجاج الخليل.
كعُشب البراري أنا،
كوديانك المعشبات، موشَّحةً بالدماءْ
كوجهكِ لو كنتِ ناطورةً للكرومْ
كعصفورةٍ ﻓﻲ السواقي تحومْ
أراني أطاردُ رائحة القافية
أراني كنقشٍ قديمْ
أُغربل شمسي على التلِّ، علَّ الغيومْ
تُطاوعني مثل أرنبةٍ من بياضْ
أسافر ﻓﻲ سفن الملح نحو الرمادْ
ﺇﻟﻰ طبقات الرخام
أسافر ﻓﻲ قارب الرحم نحو السدودْ
أُغطّي شجيرات هذا الرصيف الأنيقْ
سأحلم يا لعنة اللّذة النائمة
وأنت مُلَوَّحَةُ الخدّ، سمراء، عاريةُ الرأسِ،
مفتولةُ الشَعْر ِ
تجرين تحت السماءْ
كأنكِ سلطانةُ البحر، جمرةُ هذا الفراقْ
تبوسينَ أقدام هذا القتيلْ.
سمعتكِ قبل انحسار الغيوم، وقبل جفاف العيونْ
سمعتكِ قبل خروج الظباء من الوكر ﻓﻲ الفجرِ
ﻓﻲ الصخر، عند مسيل المياه
يُراقبن من هامش الليلِ، زلزالَ هذي المتون.
رحيلك،
لا، لن يكونْ
رحيلك كالبحر كالشمس مثل رحيل المطر
تعودين عبر الشرايين قبل أفول القمر
تعودين مثل الحمام ﺇﻟﻰ بيتك الأخضر الأبديّْ
وبين جزائر هذا الزمان الخؤونْ
تقيمين عُرساً لأبنائك الطّيبينْ
تقيمين عرساً لأبنائك السُمْر، جاءوكِ
من صخر هذي الجبال الصَبيَّة قبل هبوط السكونْ.
رحيلك، لا لن يكونْ
ولن يأكل البحر أطرافك الحجريَّة، والمصطبةْ
سأحلم يا لغةَ الأولين.
سأحلم يا أيّها الأكحل البدويُّ الصديقْ
سأحلبُ نهد صنوبرةٍ رائعة
سأشرب نبعاً بكامله،كي أُفيقْ
من الغفوة المُرعبة
فَبَيّضْ سَماركَ بامرأةٍ متعبهْ
وجَهِّزْ لكنعانَ بيرقه بعد هذا الرقاد العتيقْ
ليشعل ألوانه الأربعة.
- اللون الأزرق ... لا
إلاّ إن كان الأزرق مفتوناً بالفتنة ﻓﻲ الأسواقْ
اللون الأحمر ... لا
إلاّ إن كان الأحمر قرميداً أو حجراً
ﻓﻲ طين الأعماقْ
اللون الأسود ... لا
إلاّ إن كان حريقاً لفتات البركانْ
لستُ الصَّدفَةَ، حتى أصبغ وجهي بالألوان.
طينةُ وجهي من حجر الصوّان الأسود ﻓﻲ الوديانْ
شلاّلاتُ شراييني مرجانْ
الشعر النابت ﻓﻲ صدري،
ﻓﻲ صدغي ﻓﻲ الساعدْ
فلقد أعلنت على رأس الشاهدْ،
ملعونٌ من يسمع قهقهة الجانْ.
هل تعرفني يا هذا
إني من هذا الرمل الأصفر
إني من هذا الطين الأحمر
ﻓﻲ هذا البحر الميت أحيا كالدوريّ البدويِّ العطشانْ
أشربُ كأسَ نبيذي من وجع الدالية الشقراءْ
أعصرها، أستنشق عطر الأجدادْ
أتمزمز بالليمون مع الحجل المشويّْ.
ﻓﻲ غابة بلّوط تتراكض فيها غزلانٌ ووعولْ
أرسم ألوان حبيبي المعلومْ
قلبي من هذا البحر الولهانْ.
- اللون الأزرق ... لا
اللون الأحمر ... لا
اللون الأخضر ... لا
تلك مفاتيح الشِعْرِ المغمورْ.
ﻓﻲ قاع البحر الظمآنْ
سأعيد العاصفة النائمة على صمت مكاتبها
ألقيها ﻓﻲ خطّ النار
كيما تتحرر من أسر العارْ
لن أصبغ وجهي بالألوان المختلطة,
حتى لا يدهمني طيرُ الوِرْوارْ
وجهي من هذا البحر المخمور
قلبي من هذا الزمن السكرانْ
الأبيض لوني – إن عُدت وحيداً كالنجمة
أو عدت كبفت الموتى
سأكون وحيداً ﻓﻲ شُرُفات مطارات المنفى
سأعيد ﺇﻟﻰ الألوان، ربيع الألوانْ
يا سينات الحلم، ويا الوعد المقهور.
- العالم يبدأ من إشراقة قلبي:
(بردى) سوف يصبُّ قليلاً من دمه ﻓﻲ كأس اليرموكْ.
النهر المنشطر الروح يصبُّ قليلاً من مطر الصيفِ،
على بئر السبع العطشانْ.
البحر الميّت، سوف يرشّ الملح على مائدة الشام.
القدسُ تصاهر بيروتْ.
بيروتُ توزع بسمات تسامحها ﻓﻲ كَرْكوكْ.
شجر الغوطة يرقص مُنْتَشِيًا ﻓﻲ عمّانْ
تلك التفعيلةُ من قَصَبِ،
وﻟﻬﺎ صوتٌ رنّانْ
طعمُ عصير الرمَّانْ
أما فعلنْ، فانظُرْ ﻓﻲ شعر فسائلها
تتناسل ألواناً خلف الألوان.
مريمُ تنتشر قلائدَ من صَدَفٍ حول الأعناق.
ثمَّ توحّدُنا ألوان الروحْ
مشروخٌ قلبي،
الضِلْعُ كسيرٌ،
الصمتُ ندوبٌ وجروحْ.
- ولكنني ساطعٌ مثل عشب السطوحْ
وإن جعتُ ... لكنني لا أبوحْ
سوى للجبال التي أشعلتْ نارها
وللموج للرمل يا سيّدي يا تراب
كعشب السطوح أنا،
ولكنني ... لا أبوح.
- تقول البراري
ﺇﻟﻰ مطلع الفجر، وهي تقولْ
أتيتكِ ... لو تسمعين العويلْ
عويلَ المدائنِ غارقةً ﻓﻲ صهيل الخيولْ
أتيتك ﻓﻲ النوم – طيفاً عزيزاً عليك،
ولو ﻓﻲ المنام، أجيءْ
أزور الأحبةَ ﻓﻲ الحلم كالحلم، أقرع باب الذهولْ
وقالت وقالت وقالتْ
ﺇﻟﻰ مطلع الفجر، وهي تقولْ
بكت عندها، وحكت أنّها، قد رأتْ أهلها الغائبينْ.
ﻭﻟﻢ ترتشف شفطةً من حليب الأرقْ:
ينام وحيداً، ويصحو وحيداً، ويبكي وحيداً،
يقهقهه من فرط غربته، ليشدَّ الجناحْ
وتبكي الخرائب من صحوةٍ كالرقادْ
أتيتك ﻓﻲ ليلةٍ مُرَّةٍ كاحتراق الفراقْ
وكنت أقصّ عليك حكايا المدائن بعد الغَرَقْ
وأحكي عن الشجر المحترقْ
يعانق نرجسة النبع بعد العناقْ.
وعن قمر الشام كان مُحاقا،
فصار زُقاقاً، فدربا ... وصار طريقا
ولمّا بلوتُ الليالي رماني
ﺇﻟﻰ جزر الصمت فجراً،
وصرت زماناً لقيطا.
وقال: أعود سحاباً وخمراً وخبزاً لكمْ ﻓﻲ الشروقْ
أعود لكم ﻓﻲ عروق الصخور.
- إذن صرتُ طفلاً عجوزاً يسابق حكمتك البكر،
فوق الحصانْ
إذن صرتُ شمساً ترى قاع بحر الأمانْ
إذنْ صرت فوق جبينكِ تاجْ.
كقطيع الغنمات البيض المذعورات من الذئب المذعورْ.
يتوالى الزَّبَدُ الأبيضُ، موجاتٍ من صحْوٍ، يعلو
موجاتٍ، تهبط أو تتوارى أو تنعسُ مثلَ
يماماتٍ خلف الصخر الوهّاجْ
كنّا نتسلّق أعمدة الضوء البحرية
ونرشُّ الملح على الموتى، نخلطه بسناج
قيل لنا: إنَّ العاصفة الغربية
ستجيء لتحرس أطراف البحر الشرقيْ
لكنَّ المدن الغارقة الفضيّةْ
شَقَحتْ نجماتِ الأهل بسكين
الريح الشرقية غضبتْ
قَلَبَتْ سفن الصيادينْ
فوق الشطآن الصخرية.
غضب الرملُ، وفَنْخَرتِ الخيلُ، وثار عجاجْ
قالت أمي: بعد خروج الموتى يا كرم الزيتونْ
من هذي المدن الصامتة العزلاءْ
قالت: يأتون من الريح، يجيئونْ
لكنْ، سأمطُّ شفاهي أيتها الأمواجْ.
بكينا طويلاً، ﻭﻟﻢ يبك أعداؤنا مرَّةً واحدةْ!!
تقولون: قد شرَّقوا، غرَّبوا، قَبَّلوا يا حمامْ
وشمّوا رياح الشمال، وكانت كغربتنا الباردة.
مواويل أُمّي على تلّةٍ موحشة
تعاند قسوة ما حدث البارحة
إذا دشَّروا تينهم ﻓﻲ الصباحِ، يكون التسوُّلُ
كالشاهدةْ.
وماتوا على صخرةٍ بين بُصرى وبيروت،
ماتوا على حجر مقمر، عشقته النساءْ
نجوم النوى تستغيث ورُمّانُها والخيامْ
بكت حوله ﻓﻲ الدُجى، فاتناتُ الكلامْ
بكينا طويلاً ﻭﻟﻢ يبكِ أعداؤنا مرَّةً واحدة.!!!
- لقد جئتكمْ – ﻓﻲ دمي شهوةٌ للغناءْ
لأعزف هذي التلالْ
ولملمتُ قبل مجيئي إليكمْ
خرائطَ للمدن الغارقاتْ
حملتُ لكم من رمال الجزيرةِ، قمحاً،
وكوفيةً وعقالْ
حملت لكم من كتاب الأماني، عِِظاتْ
ومن جبل الشام هذا القرنفل والثلج والياسمين
رأيت أﺑﻲ ﻓﻲ خليج الشمالِ، يبيع الأسى للشمالْ
يغني لغزلانك الشارداتِ، قصائدَ عشقٍ حزينْ
يطارد وعلاً من الملح خلف السدودْ
ويقتلع المرمر البكر ﻓﻲ غابة من حديدْ.
وجدّي،
إذا كنتُمُ تذكرون الذي صاغ وهْج الحروفْ
ووزّع ﻓﻲ العالمين اللغاتْ
ﻭﻓﻲ شاطئ النيل، ذقتُ اسمرار خدود البناتْ
فقلت إذا احمرَّ خدُّ البُنيّةِ هاجتْ جموعُ الرجال
لقد قلت يا سيدي ما يقالْ
وما لا يقالْ
ﻭﻟﻢ يبق إلاّ نقوش الخرائب والمدن النائمات
فماذا تقول
وماذا أقول
وماذا نقول
أنا أعرف البئر – يا سيّدي – والغطاء.
- ها أنذا قُدَّامك أهذي وأشير ﺇﻟﻰ اللوح المحفوظْ
العالمُ بين يديّ حظوظ
وسأحكي عن وطن يأتيني ﻓﻲ منتصف النومْ
يصرخ ﺑﻲ: يا مولانا: أين القومْ؟!
قلت له: بالأمس ظعائنهمْ عادت من بحر الملحْ
حاملةً عطر العذراء
ناسيةً جسد العذراء.
- لأنّكَ كنتَ كثير الكلام، كثير السكوتْ
إذن تركوني هنا ﻓﻲ مدائن هذا البياض الرماديّ،
أشكو موانئها، ﺛﻢ أعشاشَ وقواقها، بانتظار النعوشْ
إذن صرت مثل التماثيل منقوشةً ﻓﻲ القبورْ.
- لماذا إذاً حاصروني، لماذا أدورْ
وكيف إذا جوَّعوني، أثور!!
- لأنك تهرب من قَدَر أعرجٍ ... لا يموتْ
لأنَّ البلاء إذا عمَّ نامتْ عيونُ المدائنِ تحت المياه
لأنك كنت كثيرَ الكلام كثير السكوتْ.
- لذا ستظلّ هنا ﻓﻲ المقابر، تحت البحار التي لا تعيش
نعم وتموت هنا، قبل يوم الخروج، وقبل قدوم الجيوش.
- إذن تركوني هنا، مثل راعٍ وحيدْ
يحوم ويسأل عن ظلّ أشجارك الباسقة.
يحوم ويسأل ﻓﻲ الظلّ طيراً عن النجمة الشاعرة
يحوم ويسأل ... لا تسأل الكاهنة
إذن تركوني أغازل شمس النهار
هنا مثل عشب السطوح
ولكنني لا أبوح.
- حدّقْ ﻓﻲ صمت التطريزِ على الإفريزْ
الموجةُ سلسالٌ ذهبيٌّ تجري خلف الموجة.
فاتنةٌ من عنب تغزل مكبوتَ الأشواقِ الناريَّةْ
خلف الجفنين المرسومين ذُنوبٌ وذنوبْ
شُبَّاكٌ مفتوحٌ وجبالُ الملحِ تذوبُ تذوبْ.
- أسمعُ طقطقةَ الأوهام على بالي / وعواء امرأةٍ ﻓﻲ
جوف البحر / عمودٌ من ملحٍ، ﺛﻢ يغيب.
خرج الشاعر مجروحاً من قلب الموّال
يا أهلَ الأرض أفيقوا من هذا النوم المُزْمنْ
لكن الناس اندمجوا ﻓﻲ التطبيلْ
حيث انتصر البركان الأرعنْ.
من خاصرة البحر الشرقيّ يكونُ الأردنْ
ومن البحر الغربيِّ تكونْ فلسطينْ
مع هذا يلتقيانْ.
يا هذا، إنْ نادانا
جَدُّكَ، أوْ جَدّي: (كنعانْ).