موت آخر و أحبك - محمود درويش

-1-
أجدّد يوما مضى، لأحبّك يوما.. و أمضي
و ما كان حبا
لأن ذراعيّ أقصر من جبل لا أراه
و أكمل هذا العناق البدائيّ، أصعد هذا الإله
الصغير
و ما كان يوما
لأن فراش الحقول البعيدة ساعة حائط
و أكمل هذا الرحيل البدائيّ. أصعد هذا الإله
الصغير
و ما كنت سيدة الأرض يوما
لأن الحروب تلامس خصرك سرب حمام
و تنتشرين على موتنا أفقا من سلام
يسد طريقي إلى شفتيك، فأصعد هذا الإله
الصغير
و ما كنت ألعب في الرمل لهوا
لأن الرذاذ يكسرني حين تعلن عيناك
أن الدروب إلى شهداء المدينة مقفرة من يديك
فأصعد هذا الإله الصغير
و ما كان حبا
و ما كان يوما
و ما كنت
و ما كنت
إني أجدد يوما مضى
لأحبك يوما
و أمضي
-2-
سألتك أن تريديني خريفا و نهرا
سألتك أن تعبري النهر وحدي
و تنتشري في الحقول معا
سألتك ألا أكون و ألا تكوني
سألتك أن ترتديني
خريفا
لأذبل فيك، و ننمو معا
سألتك ألا أكون و ألا تكوني
سألتك أن تريديني
نهرا
لأفقد ذاكرتي في الخريف
و نمشي معا
و في كل شيء نكون
يوحدّنا ما يشتّتنا
ليس هذا هو الحبّ
في كل شيء نكون
يجددنا ما يفتّتنا
ليس هذا هو الحبّ_
هذا أنا..
أجيئك منك، فكيف أحبك؟
كيف تكونين دهشة عمري؟
و أعرف
أن النساء تخون جميع المحبين الأّالمرايا
و أعرف:
أن التراب يخون جميع المحبين إلاّ البقايا
أجيئك منك انتظارا
و أغرق فيك انتحارا
أجيئك منك انفجارا
و أسقظ فيك شظايا ..
و كيف أقول أحبك ؟
كيف تحاول خمس حواسّ مقابلة المعجزة
و عيناك معجزتان ؟
تكونين نائمة حين يخطفني الموج
عند نهاية صدرك يبتديء البحر
ينقسم الكون هذا المساء إلى إثنين:
أنت و مركبة الأرض.
من أين أجمع صوت الجهات لأصرخ:
إني أحبك
-3-
تكونين حريتي بعد موت جديد
أحبّ
أجدّد موتي
أودّع هذا الزمان و أصعد
عيناك نافذتان على حلم لا يجيء
و في كل حلم أرمّم حلما و أحلم
قالت مريّا: سأهديك غرفة نومي
فقلت: سأهديك زنزانتي يا ماريّا
_لماذا أحبك؟
من أجل طفل يؤجل هجرتنا يا ماريا
_سأهديك خاتم عرسي
سأهديك قيدي و أمسي
_لماذا تحارب؟
من أجل يوم بلا أنبياء
تكونين جندية، تغلقين طريقي، تقولين: ما اسمك؟
أعلن أني أمشط موج البحار بأغنيتي ودمي
كي تكوني مريّا
_إلى أين تذهب؟
أذهب في أول السطر، لا شيء يكتمل الآن
_هل يلعب الشهداء بأضلاعهم كي تعود مريّا؟
تعود. و هم لا يعودون
_هل كنت فيهم
وعدت لأني نصف شهيد
لأني رأيت مريا
_سأهديك غرفة نومي
سأهديك زنزانتي يا مريّا .
-4-
غربيان
إن القبائل تحت ثيابي تهاجر
و الطفل يملأ ثنية ركبتك
الآن أعلن أن ثيابك ليست كفن
غريبان
إن الجبال الجبال الجبال..
غريبان
ما بين يومين يولد يوم جديد لنا
قلنا: وطن
غريبان
إن الرمال الرمال الرمال...
غريبان
و الأرض تعلن زينتها
_أنت زينتها_
و السماء تهاجر تحت يدين
غريبان
إن الشمال الشمال الشمال
غريبان
شعرك سقفي، و كفاك صوتان
أقبّل صوتا
و أسمع صوتا
و حبك سيفي
و عيناك نهران
و الآن أشهد أن حضورك موت
و أن غيابك موتان
و الآن أمشي على خنجر و أغني
فقد عرف الموت أني
أحبك، أني
أجدد يوما مضى
لأحبك يوما
و أمضي..
-5-
سمعت دمي، فاستمعت إليك
و لم تصلي بعد
كان البنفسج لون الرحيل
و كنت أميل مع الشمس _
يا أيّها الممكن المستحيل
و كانت ظلال النخيل تغطي خطانا التي تتكون
منذ الصباح و أمس .
و كنا نميل مع الشمس .
كنت القتيل الذي لا يعود
نسيت الجنازة خلف حدود يديك
سمعت دمي فاستمعت إليك ..
إلى أين أذهب ؟
ليست مفاتيح بيتي معي
ليس بيتي أمامي
و ليس الوراء ورائي
و ليس الأمام أمامي
إلى أين أذهب ؟
إن دمائي تطاردني ،و الحروب تحاربني، و الجهات
تفتشني عن جهاتي
فأذهب في جهة لا تكون
كأنّ يديك على جبهتي لحظتان
أدور أدور
و لا تذهبان
أسير أسير
و لا تأتيان
كأن يديك أبد
آه، من زمن في جسد !
يعرف الموت أني أحبّك
يعرف وقتي
فيحمل صوتي
و يأتيك مثل سعاة البريد
و مثل جباه الضرائب
يفتح نافذة لا تطل على شجر
(قد ذهبت و لم أعرف ).
يعرف الموت أني أحبك..
يستجوب القبلة النصف..
تستقبلين اعترافي..
و تبكين زنبقة ذبلت في الرسالة
ثم تنامين وحدك وحدك وحدك
يشهق موت بعيد
و يبقى بعيد
إلى أين أذهب؟
إن الجداول باقية في عروقي
و إن السنابل تنضج تحت ثيابي
و إنّ المنازل مهجورة في تجاعيد كفي
و إن السلاسل تلتفّ حول دمي
و ليس الأمام أمامي
و ليس الوراء ورائي
كأن يديك المكان الوحيد
كأن يديك بلد
آه من وطن في جسد!
-6-
وصلت إلى الوقت مبتعدا
لم يكون بلدا
كي أقول وصلت
و ما كان_ حين وصلت_ سدى
كي أقول تعبت
و ما كان وقتا لأمضي إليه ..
وصلت إلى الوقت مبتعدا
لم أجد أحدا
غير صورتها في إطار من الماء
مثل جبيني الذي ضاع بيني
و بين رؤاي سدى!
سمعت دمي
فاستمعت إليك
مشيت
لأمشي إليك
و كانت عصافير ملء الهواء
تسير ورائي
و تأكلني _كنت سنبلة _
كنت أحمل ضلعا و أسأل أين بقية
آخر الشهداء
يحاول ثانية
كيف أحمل نهرا بقبضة كفي
و أحمل سيفي
و لا يسقطان
أنا آخر الشهداء
أسجل أنك قدسية في الزمان وضائعة
في المكان
أريد بقية ضلعي
أريد بقية ضلعي
أريد بقية ضلعي