في أمريكا - ناصر ثابت

-1-
في أمريكا
كل الأشياءْ...
تجثمُ من حوليَ
مثلَ صخورٍ صماءْ
حتى الأزهارُ
وأسرابُ الغيمْ
تبدو باهتةً كدمى جوفاءْ
حتى أوراقُ الأشجارِ
وزقزقةُ عصافير الروضْ
حتى لونُ العتمةِ
وتموجُ كثبانُ التربةِ فوقَ الأرضْ
حتى الأنهارُ
وأمواج البحر الباهتِ
ونوارسُه البيضاءْ
تبدو باهتةً كدمى جوفاءْ
في أمريكا
كل الأشياء صناعية..
تمتد لها عدوى الإنصات لأخبار المال اليومية
تمتد لها عدوى "الجاز"
وعدوى أن تلتزم الطابورْ
يقتلني في أمريكا...
أن المطر الهاطلَ
لا يطرق باب الأرض سوى إن كان له ميعادْ
أن الزنبقَ
ينصاعُ لأمر رجال الشرطة
أن الموسيقى
تسبح في فياضانات الأجسادْ
حتى الأعشاب الخضراءْ
تلتزم الطول المفروض عليها
وتنام كطفلٍ يسمع أمر "الماما" كل مساءْ
لكن الفوضى في بعض الأحيان..
أجمل للأشجار..
وللأعشاب.. وللألوانْ
يقتلني أن الأولادْ
لا يغزونَ الشارعَ بالضحكاتْ
الشارع من غير الأولادِ عقيمٌ
تسرح فيه الغربانْ
-2-
في أمريكا
الشمس لها شكل آخرْ
والثلج له لونٌ آخر...
الأسماء
الأحزان
الدمع
الرقص
الأعيادْ
حتى الليلك
والفلُّ
وأوراقُ الجدرانْ
ونقوش الصناع على السجادْ
كل الأشياء لها شكل آخر...
لا يشبه حتى تلك الصورَ الموجودة في كتب الأولادْ
كل الأشياء لها طعمٌ ملحي أو حادْ
لا يشبهه في العالم طعمٌ آخرْ..
-3-
في أمريكا
تتشابه كل "المولاتْ"
وأراجيح الأطفالْ
وطباع الناس وأمزجة النسوةِ
كتشابه أجراس الميلادْ
-4-
في أمريكا..
يقتلني في الساعات اليومية
كم تلزمُ محرابَ رتابتها غير المعقولْ..
يقتلني أن ينتظر الشعرُ "الويك إند"
لكي يبزغ مثل الفجر الموضوع على قائمة التأجيلْ
حتى العشاق لهم في أمريكا
طلباتٌ..
وملفاتٌ...
ولجان تنظر فيها
وقرارات تصدر عنها... رفضاً وقبولْ
فإذا حم الشوق الصارخ في قلب امرأة
قال لها عاشقها..
(ببرود سناجب أمريكا) "مشغولْ"
-5-
في أمريكا
كل الأشياء صناعية..
حتى العشقُ
ونبض القلب
وفنجان القهوة
والأفراح اليومية
تنغمس الروحُ عميقا في رأس المالْ..
ينبت شَعرٌ أبيضُ فوق وجوه الناس..
ولا يدرون به..
ويمرُّ العمرُ سريعاً..
ثم يغادرُ دونَ سؤالْ
ويموت ربيع اللحظة وهو يردد لغةً نفطية
أحرفها من فولاذٍ
لا تعرف إلا لمعان الأوحالْ
ومحركها.. يعمل في كل الأحوال
في الحزن
وفي الموتِ
وعند غروب الآمالْ
في أوقاتِ السلم
وفي الأزمنة الحربية..
-6-
إسمح لي
يا هذا العصرَ الأمريكيْ
في هذي السنوات الأمريكية
أن أتنفسَ
– مثلَ جميع الناس -
نسائمَ فجر
لا يستأذنكم كي يبدأ رحلته الضوئية
أن أتجولَ في أرجاءِ الصدق
لأبحثَ عن لغتي الشعرية...
أن أتعاونَ مع أمواج البحر
لكي تتعلم مني فن الرفضْ
أن أتناول عمري
من ماكينتك المصنوعة دون الحاجة للروح
ولا للقلبِ... ولا للنبضْ
دون الحاجةِ لمشاعرنا الإنسانية
أن أخرج نفسي من نيرانك
كي أحرقها من أجل حبيبة قلبي
إسمح لي
أن أقرأ شعراً قبل النوم
وأكتب شعراً عند الصبح
وأن اتعلمَ من أنفاسِ الأطفال وجودَ الله
أن أغتسلَ بخيطان الكلماتْ
لأطيَّر من زقزقةِ قلوبِ العشاق فراشاتٍ حمراواتْ
أن أقحمَ نفسيَ في سير مواعيد الأزهارْ
حتى أجعلها تعطينا عطراً أخاذا في كل الأوقاتْ
حتى تملأنا بالأحلام وبالأفكارْ
-7-
إسمح لي
يا عصرَ القهر...
وعصرَ القوة والتدمير
أن أخرج نفسيَ من آلتك العملاقةِ
لأحلق مثلَ العصفورْ
وأعلقَ أرجوحة غيمٍ
تتدلى من حضن الشمس...
وتسبحُ في شلالات النورْ..
*
كاليفورنيا - 27 حزيران 2006