بسط الأفق لوا الليل البهيم - أمين تقي الدين

بسط الأفق لوا الليل البهيم
فوق قصر من بقايا الأعصر

ثم لاح البدر ما بين الغيوم
سابحا بين النجوم الزهر

برزت في روضة القصر فتاة
تتمشى وحدها وسط الظلام

وعليها من غضارات الحياة
كل ما يطبع في القلب الغرام

نظر البدر لتلك الوجنات
فتوارى خجلا خلف الغمام

وهي بين ذهاب وقدوم
تجتني في الروض بعض الزهر

كلما مرت وقد مر النسيم
سجدت عفوا غصون الشجر

رأت البدر توارى في السماء
عن محياها بظل السحب

فتوارت لا حياء إنما
قصدت تمثيل بعض اللعب

حين تبدو يختبي أو حينما
كان يبدو هو كانت تختبي

منظر ترقبه زهر النجوم
وهي سكرى شاخصات البصر

مجدي يا أرض مولاك الكريم
واشكري مبدع هذي الصور

ليلة فيها تراءى قمران
قمر باللعب يلهو مع قمر

فاستوى ذاك على عرش الزمان
وعلى عرش الهوى هذا استقر

وقفا حتى تلاقى النظران
نظر يبهر بالحسن نظر

شخصا هذا على ذاك يديم
نظرات الناقد المفتكر

رأت العجب مع الحسن مقيم
ورأى اللطف وحسن المنظر

أي أمير الليل خفف عجبك
لك في الأرض شبيه ومثيل

وهب الله له ما وهبك
فكلا وجهيكما باه جميل

إن تكن تعجب في سكنى الفلك
وتباهي من على الأرض نزيل

فلكم جسم على الماء يعوم
حين تحت الماء أبهى الدرر

ما ترى الأقدار تعلو باللئيم
وتسوم الذل رب الخطر

يا دجى الليل استطل مهما تشاء
واستمع بالله نجوى القمرين

قمر الأرض إلى بدر السماء
يشتكي مر حياة العاشقين

أنت قالت يا شقيقي في البهاء
لم تذق مثلي عذاب الحالتين

بين قرب ونوى ليس يدوم
غير وجد بالحشا مستتر

نحن أهل الحب لا نلقى رحوم
فالهوى مجلبة للكدر

نصب الحب لقلبي شركا
فهوى قلبي بهذا الشرك

ورمى المجد لنفسي شبكا
فهوت نفسي بهذا الشبك

ويح قلبي أي أمر سلكا
فكلانا في هوانا نشتكي

والذي في حبه نفسي تهيم
ويحه ليس شريف العنصر

فأبي يشكو ولي أم تلوم
إنما قلبي يناديني اصبرى

إن يكن ليس بذي مجد خطير
فهو في أخلاقه غير دني

أو يكن في هذه الدنيا فقير
فهو في الآداب والفضل غني

أنا لا يسعدني المال الكثير
إن أخلاق الفتى تسعدني

ونصيبي من أبي قسم عظيم
فيه نكفي لطويل العمر

وإذا احتجنا الغنى عند اللزوم
فيدي في يده للوطر

يا أمير الليل أمي وأبي
جعلا موعد إقناعي غدا

وأنا لست أرى من سبب
موجب قرب هذا الموعدا

فابن عمي قد أتى في طلبي
وأنا لا أرتضيه أبدا

فالغنى والمجد والجاه الفخيم
كله ليس بآدابي حري

أنا لا أرضى بذي خلق ذميم
دأبه اللهو ولعب الميسر

وأبي قال إذا لم يرضني
إبن عمي فلديه ابن صديق

حسن البزة والوجه غني
طيب العنصر في المجد عريق

جاء من يومين كي يخطبني
وهو حتى الآن ما كاد يفيق

همه ما بين كأس ونديم
علم ابن العم شرب المسكر

أول الليل إلى بنت الكروم
وإلى البيت قبيل السحر

كيف يا بدر يطيب العيش لي
وأنا غاية سؤلي الشرف

لست أنشي مرسحا في منزلي
بالملاهي بين قومي يعرف

ما ترى يكتم لي مستقبلي
إن يك الذل فموتي أشرف

يا أمير الليل عفوا فأروم
غفوة من بعد هذا السهر

وغدا إما نعيم أو جحيم
ويح قلبي فستدري خبري

برزت في الصبح في القصر الفتاة
وانبرى من حولها طلابها

فاستقرت فوق عرش المهجات
تاجها في مجدها آدابها

وحوالي عرشها غر الصفات
هي يا أهل الهوى حجابها

ولها طرف على القوم يحوم
مستعير نظرات الجؤذر

موقف ليس بسهل لفتات
لم تجز في العمر عشرين ربيع

يقبل الناس عليها عشرات
وهي تضطر إلى رفض الجميع

أصبحت بالرغم تعصى كلمات
والديها بعد أن كانت تطيع

وأبوها صابر صبر الحكيم
لا يخطيها سوى بالنظر

وهنا فازت على الصبر الهموم
فبكت عن خاطر منكسر

ورأى والدها مدمعها
فتوارى مخفيا عنها الكمد

وهي قامت تبتغي مخدعها
ريثما يرجع للقلب الجلد

هبت الأم وسارت معها
إنما الأم عزاء للولد وانحنت فوق محياها الوسيم تمزج الدر به بالجوهر

ورأت في صدرها الجمر الضريم
فغدت تطفئه بالعبر

بين ضم مستمر والقبل
رسمت في وجنة أو فوق جيد

خمدت في صدرها نار الوجل
وتلاشى مدمع كان يجود

فزها روض محياها وحل
ملك الزهر على عرش الخدود

وعليها رسم الحسن رسوم
تتجلي في جبين مسفر

ملك غادر جنات النعيم
وأتانا رحمة للبشر

ثم قالت أمها من بعد حين
يا ابنتي بالله ماذا لوعك

أي ذنب أنت عني تكتمين
وله تجرين دوما مدمعك

فاكشفي من صدرك السر الدفين
فلعلي يا ابنتي أبكي معك

فاعترى البنت ارتعاش وهموم
وأسى عن أمها لم يستر

وأجابت ولها دمع سجيم
فوق خد بالبها مزدهر

أنا يا أم فتاة ليس لي
زلة يندي لها وجه فتاة

وفؤادي إن يكن غير خلي
فضميري ليس ينسى الواجبات

أفأجني سببا للخجل
وأنا بنت لخير الأمهات

وأبي علمني أسمى العلوم
وغذاني بالتقى من صغرى

طفلة سرت على النهج القويم
وسأبقى هكذا في كبري

لست في سري أخاف العذلا
فأنا أهوى فتى غر الخصال

حسن الأخلاق يسعى للعلي
شاعر يسبح في جو الخيال

يمدح الآداب والفضل ولا
تستبيه كبرياء وجمال

تخذ الكون له بيتا فخيم
فيه يحيا بهناء أوفر

فإذا شئت فمن هذي النجوم
ينظم العقد لجيدي النضر

أنا لم أعشق غناه والحسب
وهو لم يفتن بمالي والبهاء

فكلانا شرف النفس أحب
وكلانا في الهوى العذري سواء

شاعر يحيا بقلب من ذهب
آه ما أصفى قلوب الشعراء

فارفقي يا أم في قلبي الكليم
وهبيني من حياتي وطري

أو دعيني في حمى دير أقيم
لإله الكون أشكو ضرري

ثم عادت فأفاضت دمعتين
زادتا شرح خفايا سرها

ورأتها أمها تذري اللجين
تطفىء الجمر به من صدرها

فغدت تلثمها في الوجنتين
وغدت تلثمها في نحرها

وأقامت تمسح الدمع السجوم
وهي لا تبقي له من أثر

فانظروا ما صنع الرب الكليم
بشر يمسح وجه القمر

ثم قالت يا ابنتي لا تجزعي
فالذي تبغينه سوف يصير

أنا أدرى بالفؤاد المولع
وبأهل الحب لي قلب خبير

يا ابنتي اصغي لحديثي واسمعي
لم يعد قلبي على الضيم صبور

فأبوك الشيخ مثلي لا يروم
لك إلا صفو عيش مزهر

وكلانا اليوم في حزن أليم
قد رمينا بالبلاء الأكبر

مطر الدهر علينا النقما
بعد أن كنا بأنس وصفاء

وكسانا البؤس ثوبا معلما
طرزته بالشقا أيدي البلاء

أمس في السوق خسرنا الأسهما
كلها واليوم صرنا فقراء

وخسرنا يا ابنتي العز القديم
فغدونا عرضة للخطر

وجفانا كل ذي ود حميم
فانظري حالتنا واعتبري

يا ابنتي أنت لنا خير نصير
قد وضعنا حملنا هذا عليه

فخطبناك لذي مال كثير
لتكوني ملجأ نأوي إليه

أشرف الأبناء نفسا وضمير
من يؤاسي في الرزايا والديه

حرة أنت بذا الأمر العظيم
فاعملي من بعد أن تفتكري

واعلمي أن الصراط المستقيم
لا يرى إلا بفكر نير

كلمات لم تكن إلا سهام
خرقت قلب الفتاة الطاهر

فبكت والدمع في العين أقام
مثل إكليل لورد زاهر

من رأى من قبلها بدر التمام
يسكب الدر بوجه ناضر

وغدا اللؤلؤ في الخد نظيم
هاميا من تحت طرف أحمر

فأجابت ومحياها الوسيم
سودته حادثات الغير

إيه يا أمي خسرنا كل شي
فاخبريني هل خسرنا الشرفا

لعب الدهر بنا نشرا وطي
بعد أن كان علينا عطفا

إن يكن قد فر سعدي من يدي
فإله الكون حسبي وكفى

فاصرفي يا أم ذا الحزن المقيم
والبسي ثوب الصفا واصطبري

افلم يبق لنا المجد سليم
فيقينا صرف هذا القدر

دونك الآن حلاي الباهرة
فهي تكفي والدي شر البلاء

ودعيني في حياتي الناضره
ليس لي إلا الأماني والرجاء

لست أرضى أن أراني تاجره
بين قومي بجمالي والبهاء

أنا في عهدي محبي سأقوم
بالوفا حتى فناء العمر

وعظامي في الثرى وهي رميم
تنثني شوقا له إن يذكر

في مصلى قرية فوق الأكام
بين زهر الحقل والعشب الرطب

كاهن الله بلطف واحترام
مد أيديه ونادى في طرب

يا إله الأرض كلل بالسلام
شاعر الكون على بنت الأدب

ثم نادى يا ابنة الفضل العميم
فضل هذا الوالد الآن اشكري

ربحت أسهمه القدر الجسيم
فانعمي في ظل عيش أخضر

وانبرى والدها مبتسما
راسما في خدها بعض القبل

مظهرا عود غناه بعدما
أنزل الدهر به الخطب الجلل

ثم نادى يا عروسي انعما
لكما الآن حلا شهر العسل

وأقيما حيثما الحب يقيم
ناشرا رأي الهنا والظفر

لكما في روضه الزاهي النعيم
فاجنيا منه لذيذ الثمر

ثم ساد البشر والأنس ملك
ببهاء فوق عرش المهجات

ورأي الناظر في الأفق ملك
حاملا إكليل زهر للفتاة وبدا يكتب في وسط الأفق بحروف النور هذي الكلملت

كبرياء النفس والخلق الذميم
لا يجنان بحسن المنظر

وجمال الوجه والطبع الكريم
لفتاة فتنه للبشر