الطفل فوق سريره رقدا - إبراهيم المنذر

الطفل فوق سريره رقدا
والنّار فيه تحرق الكبدا

نزلت به الحّمى فما
تركت إلا فؤاداً بات متقّدا

والموت أرسل فوقه ملكاً
بسط الجناح ليخطف الولدا

والأمّ جاثية ومقلتها
ينهل منها دمعها بردا

لا صوت يسمع في الدّيار
سوى زفراتها والأنس قد فقدا

وإذا شقيقته الفتاة وقد
كانت تعاني الدّرس والجهدا

هي مثل عمر البدر مكتملاً
نوراً تمايل عطفها ميدا

جاءت فشاهدت الصّغير على
ذاك السّرير وليس فيه جدا

صرخت أخي روحي حبيبي
ماذا نابك انطق وادفع النّكدا

قد كنت عند الصّبح سلوتنا
والآن لا سلوى ولا رغدا

ورنت إلى العلياء ضارعةً
فرأت ملاك الموت قد رصدا

ماذا تريد أخي وحيد أبي
دعه يعش فالأنس فيه غدا

أمّا إذا ما شئت تضحيةً
فأنا أكون عن الشّقيق فدى

أحنى ملاك الموت هامته
قال اتبعيني واقطعي الأمدا

فمشت ومرّ على حديقتها
حيث الجمال يموج متّحدا

ورأت رفيقات الدّروس كما
الغزلان تقفز والسرور شدا

وبدت ضما مات الزهور
على أعناقهن صففنها عقدا

وتمثلت قبراً يغيّبها
ويضمّ منها ذلك الجسدا

فبكت وقد رجفت جوانحها
لا تبتغي أن تترك البلدا

أنا لي أبٌ يحنو عليّ
ولي أمٌ تذوب لفرقتي كمدا

أنا لي حبيب مدّ لي يده
أأمد طوعاً للمنون يدا

خارت قواي ومتّ من جزعي
فأشفق عليّ بحقّ من عبدا

قال ارجعي فمضت وقد
عاد الملاك يظلّ من رقدا

وإذا أبو الطّفل انثنى عجلاً
من شغله للبيت مفتقدا

فرأى ابنه دنفاً يذوب
وطرف الأمّ من آلامها سهدا

كفّ تجسّ بها يديه
وبالأخرى تهدئ قلبها جلدا

وبدا ملاك الموت فوقهما
ظلاً رهيباً يرعب الأسدا

هذا وحيدي يا ملاك ولا
أرجو سواه في الورى عضدا

دعه يعش في الدار فهو
بها كالبدر زين نوره الجلدا

أما إذا ما شئت تضحيةً
فأنا أكون عن الوليد فدى

قال اتبعني للردى ومشى
فمشى الأب المسكين مرتعدا

مرَّا على الأسواق يعمل
في ساحاتها الإنسان مجتهدا

هذا يبيع وذاك يقبض ما
ربحت بضاعته كما قصدا

وأفاء إخوان الصفا إلى
نادٍ بفتيان الندى احتشدا

الروض زاهٍ في حدائقه
والماء يعقد حوله الزبدا

لما رأى ما قد رآه بكى
وتقطعت أحشاؤه كمدا

أنا بعد في سن الشباب
ولي مستقبلٌ أرقى به صعدا

إن الحياة عزيزةٌ وجهولٌ
من يريد الموت معتمدا

فأجابه عُد واحي يا رجل
الدنيا وأعدِد للصفا عُدَدا

بسط الجناحين الملاك على
الطفل المريض وحوط الجسدا

والطفل يلفظ من جوانحه
الرمق الأخير وجسمه همدا

ذهبت نضارة وجهه سقماً
وسواد باصرتيه قد جمدا

والأمّ جاثيةٌ بلا أملٍ
في حزنها تتنفّس الصّعدا

صاحت إلهي أين أنت
أما بك للحزانى رحمةٌ وندى

أأرى وحيدي الآن يؤنسني
وغداً أفيق فلا أرى أحدا

وإذا بها كاللّبوة انتقضت
فرأت ملاك الموت مفتقدا

سر يا ملاك إلى الرّدى
فمشى متعجباً بالأمر منتقدا

عبثاً أراها الغيد سارحةً
وقد ارتدت زهر الرّبى بردا

عبثاً أراها الأرض مفعمةً
خيراً وأهلوها ارتقت عددا

هتفت به أسرع فإنّي لن
أحيا لأن الكون قد فسدا

كم حرّفوا آياً وكم كذبوا
عن ربهم والقول ما وردا

كم ماكرٍ واشٍ ينمّ على
حرّ ويظهر غير ما اعتقدا

والسّيف يهلك كلّ نابغةٍ
والسجن يدفن كلّ من رشدا

لا الأذن تسمع ما تريد ولا
عيني ترى أوهامك الجددا

كلّي فؤاد وهو مع ولدي
فاصرم حياتي واحفظ الولدا

وتقدّمته للمنون فقال لها
قفي واسترجعي الرّشدا

أنت الجديرة بالحياة وهذا
العبد بين يديك قد سجدا

عودي إلى ابنك فهو يبحث
عن أمٌ تفوق بفضلها الشّهدا

إنّ المحّبة فيك خالدةٌ
وسوى حنان الأمّ ما خلدا

رجعت فألفت نجلها يقظاً
يفتر عن ثغرٍ حوى بردا

أماه روحي جاوبته وقد
بسطت ذراعيها له سندا

وتعانقا ملكين ما وجدت
عيناي مثلما ولن تجدا

وإلى السّما رفعت نواظرها
بالدّمع تشكر ربّها الصّمدا