أم القرى - إيليا أبو ماضي

هذه " ملفرد " قد لاحت رباها
فانس ، يا قلب اللّيالي و أذاها

واشهد الفنّ سفوحا و ذرى
و الهوى الصافي أريجا و مياها

ههنا أودعت أحلام الصبا
أفما تلمح نورا في ثراها ؟

أتلقى الوحي عن بلبلها
و هو و لهان يغني لرباها

و تحسّ الوحي روحي هابطا
من سماها في ضحاها و مساها

ذهبت عشرون في فرقتها
ليتها فيها انقضت لا في سواها

كم جلسنا تحت صفصافتها
أشتكي وجدي و تشكو لي هواها

و السّواقي استترت إلاّ غناها
و الرّوابي هجعت إلاّ شذاها

و الصدى في الغاب لم ننبس معا
نسبة إلاّ وعاها و حكاها

نتناجى ويدي في يدها
فإذا لاح خيال نتلاهى

أنا دنيا من شباب و هوى
و هي كالروضة قد تمت حلاها

أحسن الأيّام في العصر انقضت
آه لو ينشرها من قد طواها

صرت في نيويورك طيفا شاردا
مع طيوف حائرات في سراها

طرحت عنها رؤاها و مضت
ننشد المجد الذي فيه شقاها

كنعاج عميت أبصارها
ووهت في طلب العشب قواها

كلّما جدّت لكي تدركه
وجدته صار في الأرض وراها !

أين في نفسي رؤى تسعدها ؟
سرقت نيويورك من نفسي رؤاها

في يدي أمري و لا أملكه
و معي ذاتي و أخشى أن أراها !

هذه " أمّ القرى " قف في حماها
تسترح نفسي من بعض جواها

ههنا الإنسان يلقى ذاته
ههنا لا يحجب المال الإلها

لا تقل لي جئتها عارية
فقرها عندي جميل كغناها

لم يزل للصيف فيها عبق
و سماء الصيف ما زالت سماها

لا يزال الحبّ في شلالها
و بواديها حديثا وانتباها

لم يجردها الشتا من وشيها
بل كساها روعة فوق بهاها

فهي في ديباجة من صبغه
ما رآها أحد إلاّ اشتهاها