لَقَد كان شَيخٌ بالكرامةِ يُذكَرُ - رشيد أيوب

لَقَد كان شَيخٌ بالكرامةِ يُذكَرُ
يدقّ على عُودٍ فَيَسبي ويسحُرُ

وكان برغدِ العيشِ ينهَى ويأمُرُ
فَأخنى عَلَيهِ الدهرُ والدهرُ يغدرُ

وَخانَتهُ أيامٌ بُعَيد مشيبِ

فَحَارَبَ بالصّبرِ الجميلِ زمانَهُ
عسى أنَّ هذا الصّبرَ يُصلح شانَهُ

فلمّا ابتُلي بالوُلدِ عَضّ بَنانَهُ
وَفَارَقَهُ صَبرٌ لَدَيهِ وَخانَهُ

فأصبحَ مطرُوداً أسيرَ خطوبِ

فَخَلّى عن الدّنيَا وملّ عِبَادَها
وتاهَ بأرض اللهِ يطوي وهادَها

فضاقَت بهِ الدّنيَا فذمّ ودادَها
ولمّا خَلا بالنفس رامَ رشادَها

فقال لها يا نفس ويحك ذوبي

فحِيناً تَرَى بينَ الجبالِ ظُهورَهُ
وتسمَع بالوِديانِ طَوراً زفيرَهُ

يجولُ وذاك العُودُ أضحى سميرَهُ
رفيقاً لَهُ في النّائِبَاتِ مُجِيرَهُ

على صَدرِه قد ضَمّه كحبِيبِ

فَجَاءَ إِلى نهرٍ لِيَجلِسَ مَرّةً
وينفي هموماً ضايقَته وحسرةُ

فلمّا رَأى ماءً وصَادفَ خُضرَةً
وضمّ إِلَيهِ العودَ أرسلَ عَبرَةً

وحنّ إِلى الماضي حنينَ غريبِ

وما زالَ تَذكارَ الشبابِ يُرَدِّدُ
ويَذرفُ دَمعاً والحَشا تَتَوَقّدُ

يقولُ لِنَهرٍ ماؤهُ يَتَجَعّدُ
سَلامٌ على نهرٍ غليلي يُبَرِّدُ

إِذا جئتُهُ أُنهي عناء كروبي

فلمّا انبَرى هذي الحَياةَ يودّعُ
ويَنحرُ نفساً طالَ منها توَجّعُ

وأرسلَ طَرفاً باهتاً يَتَطَلَّعُ
فَشاهَدَ ما مِنهُ الحَشَا تَتَقَطّعُ

وَيجزَعُ منهُ قلبُ كلّ رهيبِ

رَأى غَادةً حَسناءَ حارَ بأمرِها
تلاعبُ أذيال النّسيمِ بشعرِهَا

فَكَفٌّ على خَدٍّ وكَفٌّ بصَدرها
وتَندُبُ كالخنساءِ فرقَةَ صَخرِها

وما من سمِيعٍ صوتها ومجيبِ

دنا الشيخُ منها وهوَ يَرثي جمالها
يخاطِبها نُصحاً لِيُنعمَ بالَها

يسائلها لُطفاً لِتَشرَحَ حالَها
لَعَلّ هُمُوماً يَستطيعُ زوالَها

فَتَبقى بعيش بالحياة خصيبِ

فقال لها هل أنتِ تائِهَةٌ هُنَا
وتَبكينَ من فَرطِ المَشَقّةِ والعنَا

علامَ علامَ ذا البكاء وذا الضنى
بعيشك قولي هل تقطعت المُنى

وأنتِ كغصنٍ بالرّياض رَطيبِ

فإن كان لا هل قد جفاك بصَدّه
حبيبٌ تَجَنّى في هوَاهُ وودّه

لئن كان ذاكَ الخِلّ مان بوَعده
فصبراً على حكم الزمانِ وكَيده

فبالصبر تحلو حالُ كل لبيبِ

ولا ترفضي من ذي الحياة سرورها
وخلّي إِلى وقت المشيب ثبورها

أمَامك أيّامٌ حَذارِ غُرُورَها
تخُطّ عَلَيها النّائِباتُ سُطورَهَا

زمان لديه الموت خير طبيبِ

فَهَمّت وقلبُ الشيخِ زادَ تَلهّبا
وَرَاحَ إِلى الحسنَاءِ يَبغي تَقَرّبا

ومَدّ يَديهِ للفَتَاةِ تأدّبا
وقال بصَوتِ المُستَجيرِ تَحَبّبَا

أجيبي ندائي يا ملاك أجيبي

فقالت وَدمعُ العينِ يجري بزَفرَة
أيا شيخ دعني الآن أقضي بحسرة

فمن حادث الأيام أني بسكرَة
لعلي إذا م امتّ أحظى بنَظرَة

هنالك ممن مات وهو نصيبي

فَواللهِ قد خَلّفتُ أهلي ومنزلي
أرومُ انفصالَ النفس مني بمعزلِ

فَوَاهاً حبيبي ماتَ أمس وليس لي
سوَى حسرَتي من بعده وتذللي

فيا ما أُحَيلى الموتَ بعد حبيبي

وما برحت تشكو الزمانَ وما جرى
وتَبكي انتحاباً والفؤادُ تَسَعّرا

فيا ليتَ عَنها ما سمعتَ ولن تَرى
بكاها وذاك الشيخ فيها تحيّرَا

وأحشاؤه ذابت بحرّ لهيبِ

فَلَمّا دعاها للمَسنونِ المُقَدَّرُ
رَمَت نفسَها في النَهرِ والشيخُ ينظرُ

وآخِرُ ما قالت أموتُ وأُعذَرُ
عسى الله يعفو عن فعالي ويغفرُ

ويصفحُ عن مثلي ويمحو ذنوبي

هيَ النفسُ إن مَلّت وزادَ عَناؤها
وفازَ على طيبِ الحَياةِ شَقاؤهَا

يقولُ على الدنيَا السلام رَجاؤها
كذا نفس ذاك الشيخ عزّ عزاؤها

فوَدّعَ عوداً قائلاً بنحيبِ

أيا سَلوَةَ الأحزانِ فيها تَوَلَّعَت
عَواطفُ أهل العشق حين تضعضعت

فَلَولاك آمالي قديماً تَقَطّعَت
فكم راحةٍ لي فيك منك توسّعَت

وكم قلتَ للنفس الحزينة طيبي

فأنت الذي يَبكي بغير دموعِهِ
حُنُوَاً وسكنى الحبّ طيّ ضلوعه

فكم نحتَ مُشتاقاً قضى بولوعِهِ
حزيناً تَفانى في الهَوى بخضوعهِ

بلحنٍ هواه العاشقون مذيبِ

ويا مُؤنسي بعد انفرادي وغربتي
لقد كنتَ في الضّراءِ فارجَ كربتي

ولم تكُ إِلاّ فيك لا عنك رغبتي
فأنت مقيمٌ في حضُوري وغَيبَتي

بصَدرٍ إِلى يوم النشور رحيبِ

عسى الريح إن هَبّت تمِيلُ وتعطفُ
وتحتكّ بالأوتارِ منكَ فترجُفُ

فيسري حنينٌ بالهَواءِ ويلطُفُ
ويلمسُ روحي في الفضاءِ ويألفُ

فسوفَ تطيرُ الريحُ عما قريبِ

ويا ريشَةٌ تُملي معاني شعورها
فتجلو لنَا الأوتارُ ما في ضميرِهَا

ويُظهر معنى الحبّ ما في سطورها
وما أخفَتِ الرّنّاتُ عند مسيرها

عليك سلامٌ في الضحى وغروبِ

وجادَت دموعُ الشيخِ تهمي بسكبها
وضاقَت به الدنيا بواسع رحبِها

فألقى بنَفسٍ تَبتَغي عَفوَ ربّها
تهيمُ اشتياقاً نحو مركزِ قطبِها

وقلبٍ إِلى دارِ البقاءِ طروبِ