فراديس الوحشة - شوقي بزيع

تترامى شمسُها الخضراءُ عن بُعْدٍ
وتنأى في الدُّخان
أبداً يرتدُّ عن أبراجها الطَّرْفُ
ويعلو جذعَها المكسوَّ بالحسرةِ
صَمْغُ الهذيانِ
شاخصاً من فُرْجَةِ القلبِ
إلى فوَّهةِ البئرِ التي تغسل بالأهدابِ
أقدام بُخارى
قلت للطفلِ الذي فيَّ:
انتظرْني
ربما أبلغ في خاتمة الرحلةِ
ما لم تطأ الأحلامُ من قَبْلُ
ولم تَمْسَسْ يدانِ
وتوغَلتُ بعيداً في السماواتِ
التي تفصلني عن برقها الخائرِ،
صادقتُ مفازاتٍ
وودياناً
وصادقتُ بقايا أنهرٍ
أخمدها الوقتُ
ولم يأخذ بأيديها إلى برِّ الأمانِ
لم يكن ليلٌ لأدعو نجمهُ
بوصَلَتي في التيهِ،
أو فجرٌ
لأستقوي بما يركض من أفراسهِ
في الغبش الفضيِّ،
لا ماضٍ لكي أمضي
ولا مستقبلٌ كي أُرهف السَّمْعَ
إلى الريح التي تفتضُّ كالسِّكينِ
أحشاء الثواني
مَنْ أذن يهتف لي
من خلف هذا الحائط المجهولِ،
مَنْ أثْخَنَ رأسي بالإجابات
التي ينخرُهُا الشكُّ
وصدري بالنياشين،
و مَنْ أطلقني كالمخلبِ الخاسرِ
في هذا الرِّهانِ؟
منشباً أوردتي العزلاءَ
في ما غيَّض الرملُ من الأفئدة الظمأى
وما يخفقُ كالغربان
في ليل الحيارى
رحتُ أستقرئُ صبَّار العذاباتِ العدائيَّ
الذي ينزفُ
مثل القنفذِ المخمورِ
من جلْد الصَّحارى
فتبدَّى لي، كمن في نومه يبصر،
شيخٌ، كنتُ قد عايْنتُهُ من قبلُ
في صورة أسلافي البعيدين
ومن غاصوا إلى اللُّجةِ
مثلي،
قلت: هل تعرفُها
هل تعرفُ الدرب إلى شمس بخارى؟
وإلى الباب الذي ينشقُّ
عن أمواجها الزُّرْقِ،
وهل يتسَّع العمرُ لكي أبلغها يوماً
وتُعشي ضوءَ عينيَّ
المناراتُ العذارى
قال: إني عائدٌ منها
ولا شيء بها مما تظنُّ
ليس في هذا المدى الأجوفِ
إلا رممٌ منهوبةُ الاسمِ
وفَخَّارُ عظامٍ بَلِيَتْ من شدةِ القَيْظِ
وأقدامٌ تئنُّ
ما الذي أفعلُهُ
في قلب هذا النفقِ الموحشِ،
قلتُ،
وأنَّى لي أن أرى
أبراجها الغرقى
ولا نار لكي يسترشد الأعمى،
ولا نَأْمَةَ،
لاشيء سوى رَجْعِ سعالِ
البشر الفانين
والأيدي التي صارت غباراً
هي ليست في مكانٍ أو زمانٍ
أو أوانٍ تمتم الشيخُ،
هي الخمرُ التي نفقدها
في ذروةِ النشوةِ،
طَعْمُ القُبَلِ الأوَّلُ،
برقُ الشِّعر في الرأس،
الشِّتاءات التي تُعْوِلُ
في خطِّ استواءِ الروحِ،
والماسُ الإلهيُّ الذي ما أن
يعرِّي وهجه المجروحَ
للأعينِ
حتى يتوارى
كلٌّ من يبحثُ عن لَيْلاه
في الهاجرةِ الصَّماءِ
أو يصطكُّ كالمقرورِ في بريَّةِ
الفقدانِ،
أو يبكي على أندلسٍ ضاعتْ
يسميِّها بخارى
بِمَ أستهدي إذن
في ذلك التيهِ المرائي
بِمَ أستهدي،
أنا القاطع خلفي
كلَّ ما يربطني بالأرضِ
والدائرُ مثل العقربِ الأخرقِ
في هذا الهباءِ
أتحرَّى على يدٍ يومئُ لي من خلفها
ياقوتُها الغاربُ،
عن صَفَّيْ قبابٍ
تتهجَّى صدرها الغضَّ
بلا جدوى
قلا أقواسُها بانتْ
ولا الريحُ التي استصرختُها
رَدَّتْ ندائي ………….
فجأةً،
بعد اشتعال الشَّيْبِ في الرأس
تجلَّى وجهها المشروخُ كالمرآةِ
في قلب العراءِ
هارب الأطيافِ
للأرض التي غادرتُها
في مطلع العمرِ
وللماضي الذي يشهقُ كالينبوعِ
في أقصى دمائي
وتَلَفَّتُّ،
لعلِّي مدركٌ أنقاضَ
مَنْ أوْدَعْتُهُ كنز انتظاراتي
وأسمال اشتهائي
فإذا الطفل الذي في داخلي
قد شاخ
والشمس التي أقصُدُها باتت ورائي .