الحــياة - إبراهيم ناجي

جلستُ يوماً حين حلَّ المساءْ
وقد مضى يومي بلا مؤنسِ

أريح أقداماً وهتْ من عياءْ
وأرقب العالَم من مجلسي!

***

أرقبه! يا كَدّ هذا الرقيب
في طيب الكون وفي باطلهْ

وما يبالي ذا الخضم العجيبْ
بناظر يرقب في ساحلهْ

***

سيان ما أجهل أو أعلم
من غامض الليل ولغز النهارْ

سيستمر المسرح الأعظم
روايةً طالت وأين الستار

***

عييتُ بالدنيا وأسرارها
وما احتيالي في صموت الرمالْ!

أنشد في رائع أنوارها
رشداً فما أغنم إلا الضلالْ !

***

أغمضت عيني دونها خائفاً
مبتغياً لي رحمة في الظلامْ

فصاح بي صائحها هاتفاً
كأنما يوقظني من منامْ:

***

أنت امرؤٌ ترزح تحت الضنى
لم يبق منك الدهر إلا عنادْ!

وكل ما تبصره من سنا
يهزأ بالجذوة خلف الرمادْ!

***

وكل ما تبصره من قوى
تدوي دويّ الريح عند الهبوبْ

يسخر من مبتئس قد ثوى
يرنو إلى الدنيا بعين الغروبْ!

***

انظر إلى شتى معاني الجمالْ
منبثة في الأرض أو في السماءْ

ألا ترى في كل هذا الجلال
غير نذيرٍ طالعٍ بالفناءْ!

***

كم غادة بين الصبا والشبابْ
تأنقّ الصانع في صنعها

تخطر والأنظار تحدو الركاب
ولفظة الاعجاب في سمعها!

***

وربما سار إلى جنبها
مدّله ليس يبالي الرقيبْ

يمشي شديد العجب في قربها
إذا راح يوليها ذراع الحبيبْ!

***

وانظر إلى سيارة كالأجل
تخطف خطفاً لا تُبالي الزحامْ

هذا الردى الجاري اختراع الرجلْ
هل بعد صنع الموت شيءٌ يُرامْ!

***

وانظر إلى هذا القويّ الجسدْ
الباتر العزم الشديد الكفاحْ!

قد أقبل الليل فحيّ الجلد
في رجل يدأب منذ الصباحْ

***

أجبت: يا دنياي من تخدعين؟
إني امرؤٌ ضاق بهذا الخداعْ

مزّقتِ عن عيشي . هنيّ السنين
لأنني مزقتُ عنكِ القناعْ !

***

إن الجمالَ الساحرَ الفاتنا
يا ويحه حين تغير الغضونْ

ويعبثُ الدهر بحلو الجنى
وتستر الصبغة إثم السنينْ!

***

وهذه السيارة العاتيهْ
وربما الجبار كالبرق سارْ

ما هي إلا شُعَلٌ فانيهْ
نصيبها مثل شعاع النهارْ!

***

وارحمتاه للقويِّ الصبورْ
يقضي الليالي في كفاحٍ سخيفْ

وكيف لا أبكي لكدح الفقيرْ
أقصى مناه أن ينال الرغيفْ!

***

كم صحتُ إذا أبصرت هذا الجهادْ
وميسم الذلة فوق الجباهْ

يا حسرتا ماذا يلاقي العبادْ
أكُلُّ هذا في سبيل الحياهْ؟!

***

وفي سبيل الزاد والمأكل
نملأ صدر الأرض إعوالا

كم يسخر النجمُ بنا مِن عل
وكم يرانا الله أطفالا!

***

يا ربِّ غفرانك إنا صِغارْ
ندبّ في الدنيا دبيبَ الغرورْ

نسحب في الأرض ذيولَ الصغارْ
والشيبُ تأديبٌ لنا والقبورْ!