تَعقيبٌ على حَادِثَةِ قِطارِ الصَّعيد - عبدالعزيز جويدة

والتي راح ضحيتها مئات القتلى حرقًا
يَا سيِّدي
هَذي البلادُ لِمَنْ ؟
ليسَتْ لَنا
لكنَّنا ـ أبناءَها ـ
لم نَلقَ غيرَالضَّنْ ؟
وأبي الذي وَجَدَ الحياةَ
صَعيبةً ، وكئيبةً ..
حَملَ المَتاعْ
وسألتُهُ عندَ الوداعْ
فلأينَ تذهبُ يا أبي ؟
فأجابَني :
للقاهرةْ
دَمعَتْ عُيوني،
اهتَزَّ قلبي
حينَ قالَ : القاهرةْ
بلدُ المآذنِ والكنائسْ
فهُناكَ سيِّدُنا "الحُسين" ..
و"السَّيِّدَةْ"
مِن نسلِ أطهرِ طاهرَةْ
سأزورُهم عندَ الوصولْ
ولسوفَ أقرأُ للجميعِ الفاتِحةْ
أبتي .. وماذا سوفَ تعملُ
إن وصلتَ القاهرةْ ؟
يا ابني سأعملُ أيَّ شيءْ
سأكونُ شيَّالاً ..
سأكونُ بوَّابًا ،
سأكونُ "سَرِّيحًا" ...
يا ابني أتعرفُ
ما تكونُ القاهرةْ ؟
للصبحِ تبقى ساهرةْ
فيها المطاعمُ ، والملاهي ،
والضِّفافُ الساحرةْ
فيها البيوتُ الفاخرةْ
في أيِّ وقتٍ عامرةْ
ولسوفَ أُرسلُ كلَّ شهرٍ بالبريدْ
مِائَتَي جُنيهٍ أو يَزيدْ
فهناكَ يا ابني مَنطقةْ..
بابِ الحديدْ
فيها تَجِدْ
كلَّ الصَعيدْ
كلَّ الصَعيدِ..
يا أبي ؟
نَعم وربِّي يا بُنَيْ
فيها تَجدْ ..
كلَّ الصعيدْ
***
أنا كنتُ أمشي،
كانَ يركبُ فوقَ ظَهرِ حِمارِنا
وعَليَّ جِلبابٌ مُمزَّقْ
قد كانَ يَلفَحُني الغُبارْ
وجميعُ أهلي في الحقولِ يُلوِّحونَ :
مَعَ السلامةْ
وأبي يَردُّ ..
يَردُّ آلافَ التَّحايا بابتسامةْ
أنا مِن بُكائي لستُ أسمعْ
فلِمن ستترُكُنِي .. أبي ؟
ومتى سترجِعْ ؟
***
وأنا الذي قد كنتُ
في الكُتَّابِ من عامينِ .. لكنْ
في ليلةٍ نادَى أبي
نادى وصرَّحَ : يا بُنَيْ
هذي ظُروفي لا تُساعِدْ
لا وقتَ للكتَّابِ يا وَلَدي
مِن يومِها
عَمَلي أجيرْ
***
كانَ الطريقُ إلى المحطَّةِ باهِتًا
وأنا أُجرجِرُ في أسى قدَمي
ووحدي أستجيرُ
ولا مُجيرْ
وصَلَ القِطارْ
متَهالِكًا ..
ومسافرونْ
كتَبوا على الجُدرانِ للذكرَى
وسَهمًا شَقَّ قلبيهِمْ ،
وحَرفْ
والأرضُ خوفْ
وجُموعُ ناسٍ هائلةْ
ومُعانِقون ،
ومُودِّعون ،
وبقيَّةٌ من دَمعِهم
في كلِّ كَفْ
للمرَّةِ الأولَى أرَى ..
شكلَ القِطارْ ،
لونَ القطارْ ،
طولَ القطارْ ،
وأرى عذابَكَ يا انتِظارْ
وأشمُّ ريحَ العائدينَ منَ السفرْ
عَرَقًا ، غُبارْ
وصلَ القِطارْ
عَرَباتُهُ ، ومَقاعدُهْ،
ونَوافِذُهْ..
منها تَهُبُّ روائحٌ
وكأنَّها رَوَثُ البهائمْ
صافحتُ في صمتٍ أبي
ورَجعتُ وحدي في الطريقْ
فوقَ الحِمارِ
وكنتُ نائمْ
***
مرَّتْ سنينْ ..
وأبي الذي ودَّعتُهُ
مِن بعدِهِ
جاءَ الألوفُ مُسافِرينَ
ويقصِدونَ القاهرةْ
ووصلتُ سِنَّ العاشرةْ
وأبي الذي بالقاهرةْ
أهدى خطابًا موجزًا..
"بعدَ التحيةِ والسلامْ
خَتْمُ الكلامْ ..
أنا عائدٌ"
***
ووقفتُ وحدي
بالمحطَّةِ في انتِظارِهْ
أمِّي ، وسِتَّةُ أخوةٍ بالبيتِ
كانوا في انتِظارِهْ
متشوقينَ لرؤيَتِهْ
ولعودتِهْ
كم مَرَّتِ الأعوامُ دونَ لقائِهِ !
كنَّا بِها مثلَ اليَتامى
والحياةُ كمقبَرَةْ
أمي تُغنِّي والصغارُ وراءَها
يتشاجَرون ..
ويُخمِّنونْ
ماذا سيحملُ مِن هدايا القاهرةْ !!
مِن شارعِ "الموسكي"
سَيأتي بالحَقائبِ عامرةْ
يتَسابَقون ..
مَن ذا الذي سيُقَبِّلُهْ
ومَنِ الذي سيظلُّ مُختبئًا وراءَ البابِ
حتى يَفتحَهْ
ومَن الذي سيُناولُهْ ..
جِلبابَهُ ، ومَداسَهُ ، ويُدَلِّلُهْ ...
***
قد كنتُ وَحدي في انتِظارِهْ
صمتٌ طويلٌ وانتِظارْ
وَصَلَ القطارْ ..
صَوتُ القطارْ ..
نَفسُ القطارْ ..
آتٍ يَشُقُّ الليلَ شقًّا ، والغُبارْ
وَقفَ القطارْ ..
فَرَغَ القطارْ ..
وأنا أُفتِّشُ في وُجوهِ القادمينَ
الحالِمينَ ، الضائعينَ ..
الحاملينَ الحُزنَ بينَ الأمتِعَةْ
لكنَّ عيني لم تَرَهْ
وسألتُ مَن كانوا مَعَهْ ...
***
الصوتُ نارْ ..
والأرضُ نارْ ..
والكونُ نارْ
وسطَ الصراخِ أو العَويلِ أو الشِّجارِ
سَمِعتُهم ..
قالوا: قدِ احتَرَقَ القِطارْ
قالوا: قدِ احتَرَقَ القِطارْ