الانتظار - محمود حسن إسماعيل

انتظرني هنا مع الليل.. إنّي
أنا في صدركَ المحطَّم سِرُّ

هكذا قالتِ الشقيّةُ واللَّيْـ
ـلُ على صدرها أنينٌ وشِعْر

واهتزازٌ كأنّه قُبَل العُشّا
قِ، لم يحمِها حجاب وسترُ

ولها نظرةٌ كأنَّ بقايا
من وداع على الجفون تمرّ

نعسةٌ، وانتعاشة.. وهنا الشَيْ
ءُ الذي قيل عنه للناس: سِحر!

وابتهالٌ كأنّه غُربة الطَّيْـ
ـرِ، لها في سمائم البِيد سَيْر

ولها رعشةٌ كما انتفضتْ كأ
سٌ بكفّي، فكلُّها ليَ سُكْر

ولها حيرةٌ تعلَّمتُ منها
كيف تهويمةُ النبيّين تَعرو؟

ولها حين أقبلتْ ثمّ غابتْ
ندمُ الوحي، حين يدنو يفِرّ!

انتظرني هنا.. وذابتْ كحُلمٍ
صدَّه عن خُطاه للروح فجر

وأنا جاثم أُقلِّب كفّيْ..
يَ، كما قلَّب المقاديرَ دَهْر!

انتظرني هنا.. ومرَّ زمانٌ
وأنا في ترقّبي مُستمِرّ

انتظرتُ الصَّباحَ، حتَّى أَتاني
وبه كالظلام سُهْدٌ وفِكر

وانتظرتُ الضُّحى، فأقبل يرتا
عُ، على ساعديه عُشبٌ ونَهر

وانتظرتُ الأصيلَ، حتى دنا مِنْـ
ـنِي، وجنباه للصبابات وَكْر

وانتظرتُ المغيبَ. وهو غريبٌ
أهلُه أورثوه ثُكْلاً ومَرّوا

خلَّفوه.. فلا النهارُ بمأوا
هُ، ولا الليلُ. آهِ ضاع منه الـمَقَرّ!

كلَّ يومٍ جنائزُ النورِ تسعى
وهو من خلفها وجومٌ وصبر

لاحِدٌ يَدفن الحياة بكفّيْـ
ـنِ، هما ظلمةٌ ترامتْ، وفجر

تشهق الرّيحُ حوله فهي في الأفْـ
ـقِ بكاءٌ من عالم الغيب مُرّ

وَهْو بوحُ الرمادِ، قبضُ حواشِيـ
ـهِ سكونٌ، ومسُّ جنبيه جَمر

طال مثلي انتظارهُ فكلانا
في جحيم الهدوء ألقاهُ أَمْر

وَلْوِلي يا رياحُ! أنتِ خِضمٌّ
ما له أينما توجَّهتِ بَرُّ!

أنتِ مثلي تَلفُّتٌ وانتظارٌ
فوق أوتاره الخفيّةِ نبر

جمعتْني بكِ الليالي كما يَجْـ
ـمَعُ سِحرَ الهوى وبلواه صدر

أنتِ قيثارةٌ، وقلبي عزيفٌ
وكلانا رماه في القيد أَسْر

كبَّلتكِ الآفاقُ، تجرين فيها
لا مزارٌ يأويكِ، لا مُسْتَقرّ!

تشتكينَ الإسارَ والجوُّ ساهٍ
ساهمٌ عن أساكِ، والكونُ وَقْر

أَعْولي يا رياحُ.. قيدُكِ خُلْدٌ
وبلاياكِ ليس منها مَفرّ!

وأنا في القيود مثلُكِ حيرا
نُ، أَخَيْرٌ سلاسلي أم شَرّ؟!

صلبتْني على مطافكِ أرزا
ءٌ، رماني بها غرامٌ وشِعر

ومتاهاتُ شاعرٍ ضلَّ.. ما يَدْ
ري، أَزُهْدٌ حياتُه أم كُفر؟!

حيّروه فملءُ جنبيْه لو يَدْ
رونَ شيءٌ عذابُه مُستمِرّ

جاء يُفضي به، ولو كنتِ تُصْغِيـ
ـنَ، لأدماكِ منه شوكٌ وصَخر

طوَّقتْ عمرَه غيومٌ هي الفنْ
ـنُ الذي قيل عنه: خُلدٌ، وسِحر

لم يجدْ صاحباً على الدرب، فانْسا
بَ، وأيامُه ضلالٌ وخُسْر

وحدَه في الطّريق.. لا نورَ إلا
من بقايا ما كان أَهرق فجر

وحده! والرفيقُ نايٌ، ولو سا
قَ خُطى راهبٍ فأنتِ الدير

ها هنا خيَّمتْ جراحي ووَسْوسْـ
ـتُ، رياحي.. كأنْ حُداءٌ وقَفر

ومددتُ الجناحَ أرتقب النُّوْ
رَ، وأشتاقه لعلّي أفِرّ

ولعلّي.. ومرَّ حولي زمانٌ
والدجى والرياحُ نَوْحٌ وقبر

وأنا والظلامُ مُنتَظِرٌ مِثْـ
ـلي... عبدٌ يُسلّيه في الغياهب حُرّ

قِمّةٌ من وساوس وارتعاشٍ
أنا فيها رغمَ المقاديرِ نسر

انتظرْني هنا.. وطال انتظاري
وَهْيَ في أعيني التفاتٌ وذُعر

وسؤالٌ لكلّ شيءٍ حوالَيْ
يَ، وإيماءةٌ لكلّ طيف يَمرّ

وانتباهٌ، وغفلة، وربيعٌ
وخريفٌ، وشَيْبُ زهرٍ، وعطر

وجناحٌ يهفو، وآخرُ يَهْتا
جُ، ومن بين ما يرفّان طير

وأنا سبسبٌ توهَّج منهُ
لخُطاها أَيْكٌ رطيب، وزهر

وَهْيَ لا أقبلتْ.. ولا عاد منها
لشقائي بعودة الكأسِ خمرُ!!