بِناظِرِكَ الْفَتَّانِ آمَنْتُ بِالسِّحْرِ - محمود سامي البارودي

بِناظِرِكَ الْفَتَّانِ آمَنْتُ بِالسِّحْرِ
وَهَلْ بَعْدَ إِيمانِ الصَّبَابَة ِ مِنْ كُفْرِ؟

فَلا تَعْتَمِدْ بِالْهَجْرِ قَتْلَ مُتَيَّمٍ
فإنَّ المنايا لا تزيدُ عن الهجرِ

فلولاكَ ما حلَّ الهوى قيدَ مدمعى
وَلا شَبَّ نِيرَانَ اللَّوَاعِجِ فِي صَدْرِي

وإنِّى على ما كان منكَ لصابرٌ
لعلمى َ أنَّ الفوزَ منْ ثمرِ الصَّبرِ

فليتَ الَّذى أهدى الملامة َ فى ِ الهوى
تَوَسَّمَ خَيْراً، أَوْ تَكَلَّمَ عَنْ خُبْرِ

رَأَى كَلَفِي لا يَسْتَفِيقُ، فَظَنَّ بِي
هَناتٍ، وَسُوءُ الظَّنِّ داعِيَة ُ الْوِزْرِ

وماذا عليهِ وهوَ خالٍ منَ الجوَى
إذا هِمتُ شوقاً ، أو تَرنَّمتُ بالشعرِ؟

فإن أكُ مشغوفاً فَذو الحلمِ رُبَّما
أَطَاعَ الْهَوَى ، وَالْحُبُّ مِنْ عُقَدِ السِّحْرِ

وَأَيُّ امْرِىء ٍ يَقْوَى عَلى رَدِّ لَوْعَة ٍ
إذا التهَبَت أَربَت علَى وَهجِ الجَمرِ؟

عَلَى أَنَّنِي لَمْ آتِ فِي الْحُبِّ زَلَّة ً
تَغضُّ بِذكرِى فى المحافلِ أو تُزرِى

وَلَكِنَّنِي طَوَّفْتُ فِي عَالَمِ الصِّبَا
وعُدتُ ولَم تَعلَق بِفاضِحة ٍ أُزرِى

سجيَّة ُ نَفسٍ آثَرَت ما يَسُرُّها
وَلِلنَّاسِ أَخْلاقٌ عَلى وَفْقِها تَجْرِي

ملَكتُ يَدى عَن كُلِّ سوءٍ ومنطقى
فَعشتُ برئَ النَّفسِ من دنسِ العُذرِ

وأَحسنتُ ظَنِّى بالصَّديقِ ، ورُبَّما
لَقِيتُ عَدُوِّي بِالطَّلاقَة ِ والْبِشْرِ

فَأَصْبَحْتُ مَأْثُورَ الْخِلالِ مُحَبَّباً
إِلى النَّاسِ، مَرْضِيَّ السَّرِيرَة ِ ف

فما أنا مَطلوبٌ بِوترٍ لمَعشرٍ
وَلا أَنَا مَلْهُوفُ الجَنَانِ عَلى وَتْرِ

رَضيتُ منَ الدُّنيا وإن كُنتُ مُثرِياً
بِعِفَّة ِ نفسٍ لا تَميلُ إلَى الوَفرِ

وأخلَصتُ للرَّحمن فيما نَوَيتُهُ
فعاملنى بِالُّلطفِ من حَيثُ لا أدرِى

إذا ما أَرادَ اللهُ خَيراً بِعَبدهِ
هَداهُ بِنُورِ اليُسرِ فى ظُلمة ِ العُسرِ

فيابنَ أبى والنَّاس أبناءُ واحدٍ
تقَلَّد وَصاتِى ، فَهى َ لؤلؤَة ُ الفِكرِ

إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيداً فَلا تَكُنْ
لَدوداً ، ولا تَدفَع يدَ اللَّينِ بِالقَسرِ

ولاتَحتَقر ذا فاقة ٍ ، فلَربَّما
لقيتَ بهِ شَهماً يُبِرُّ على المُثرِى

فَرُبَّ فَقِيرٍ يَمْلأُ الْقَلْبَ حِكْمَة ً
ورُبَّ غَنى ٍّ لا يريشُ ولا يَبرى

وكُن وسَطاً ، لا مُشرئِبّاً إلى السُّها
وَلا قَانِعاً يَبْغِي التَّزَلُّفَ بِالصُّغْرِ

فَأحْمَدُ أخْلاقِ الْفَتَى مَا تَكَافَأَتْ
بِمنزلة ٍ بينَ التَّواضعِ والكِبرِ

وَلا تَعْتَرِفْ بِالذُّلِّ فِي طَلَبِ الْغِنَى
فَإِنَّ الْغِنَى فِي الذُلِّ شَرٌّ مِنَ الْفَقْرِ

وإيَّاكَ والتَّسليمَ بالغيبِ قبلَ أن
تَرَى حُجَّة ً تَجْلُو بِها غَامِضَ الأَمْرِ

ودارِ الَّذِي تَرْجُو وَتَخْشَى ودَادَهُ
وَكُنْ مِنْ مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ عَلى حِذْرِ

فَقَدْ يَغْدِرُ الْخِلُّ الْوَفِيُّ لِهَفْوَة ٍ
وَيَحْلُو الرِّضَا بَعْدَ الْعَدَاوَة ِ وَالشَرِّ

وفى النَّاسِ مَن تَلقاهُ فى زِى ِّ عابدٍ
وَلِلْغَدْرِ فِي أَحْشَائِهِ عَقْرَبٌ تَسْرِي

إذا أمكنَتهُ فُرصَة ٌ نَزَعت بِهِ
إلى الشرِّ أخلاقٌ نَبَتنَ على غمرِ

ولا تحسبَنَّ الحِلم يَمنَعُ أهلَهُ
وُقُوعَ الأَذَى ، فَالْمَاءُ وَالنَّارُ مِنَ صَخْرِ

فَهَذِي وَصَاتِي، فَاحْتَفِظْهَا تَفُزْ بِما
تَمَنَّيْتَ مِنْ نَيْلِ السَّعَادَة ِ فِي الدَّهْرِ

فإنى امرؤٌ جرَبتُ دهرى ، وزادنى
بِهِ خِبْرَة ً صَبْرِي عَلى الْحُلْوِ والْمُرِّ

بَلَغْتُ مَدَى خَمْسِينَ، وازْدَدْتُ سَبْعَة ً
جَعَلْتُ بِهَا أَمْشِي عَلى قَدَمِ الْخِضْرِ

فكيفَ ترانى اليومَ أخشى ضَلالة ً
وشيبِى مِصباحٌ على نورِهِ أسرى ؟

أَقُولُ بِطَبْعٍ لَسْتُ أَحْتَاجُ بَعْدَهُ
إلى المَنهلِ المطروقِ ، والمنهَجِ الوَعرِ

وَلِي مِنْ جَنانِي إِنْ عَزَمْتُ وَمِقْوَلِي
سِراجٌ وعَضبٌ ، ذا يضِئُ ، وذا يَفرِى

إِذَا جَاشَ طَبْعِي فَاضَ بِالدُّرِّ مَنْطِقِي
وَلا عَجَبٌ، فَالدُّرُّ يَنْشَأُ فِي الْبَحْرِ

تَدَبَّرْ مَقَالِي إِنْ جَهِلْتَ خَلِيقَتِي
لِتَعْرِفَنِي، فَالسَّيْف يُعْرَفُ بِاْلأَثْرِ

وَلا تَعْجَبَنْ مِنْ مَنْطِقِي إِنْ تَأَرَّجَتْ
بِهِ كُلُّ أَرضٍ ، فَهوَ ريحانَة ُ العَصرِ

سَيَذْكُرُنِي بِالشِّعْرِ مَنْ لَمْ يُلاقِني
وَذِكْرُ الْفَتَى بَعْدَ الْمَمَاتِ مِنَ الْعُمْرِ