رسالة مغترب - مروة دياب

لما عرفت الحب..
كنت صغيرة ألهو
لأسرق من بحور العشق أشرعتي
و أبصرَ كيف فوق الموج يرسو
ألف نهر من أنين المُبْعَدين؟؟
أو كيف وسط الغيم
وسط عواصف الأحقاد
و الموت المزيَّن
بالسنابل..
بالمشاعر..
بالأناس الطيبين!
كيف وسط الزيف يبقى
للندى صوتٌ
ليسمو كل شوق أو حنين؟!
و يلومني الناسُ..
لأني طفلة و الحب عندي
لا يجاوز حب نَوْرِ الياسمين
لكنني لما أبالِ بلومهم
و مضيت كالعصفور أسبح في الفضا
و أعود يحملني الحنين..
...
وطني الحبيب..
الشوق ينبض في دمي
أنفاسك الحرّى تعانق وحدتي
فتزيدني ألمي و قد حن الغريب..
و سماؤك الحيرى
أمام النيل ساجدة
تسطر فوق صفحة مائه الفضي ماضيها
و تحكي قصة التغريب..
فرق البدر من حِلّي و ترحالي
و هاج البحر ينهرها..
لكي تأسى على حالي
و ليس تجيب!!
و ذاك النيل قد طافَ
بحسنه ماحِيًا لحنَ المغيب
فبدا المساء بوجهه العبس الكئيب
ليبدد البؤس الحياة
...
وطني الحبيب..
أنا ما نسيت حنانك الأبَدي
و لا ذقت الهنا بعد الرحيل
فهل عرفت الحب بعدي؟؟
هل حننت إلى العيون و همس يَدِّكَ في يَدي؟
أوَ قد نسيت رسائلي؟
و مداد شوقي فوق جدران المعابد شاهدٌ
تتلاطم الآهات في وجدي
تنازعني الحنين لعطرك الوردي
و تصفعني على وَجْدي
لماذا لم تُحَرِّكْ فيك ذكرايَ الحنين؟!
عشرون عامًا..
مرت الأعوام عامًا بعد عام..
عشرون عامًا..
أدفن الأفراح و الأحزان في قلبي الذبيح
"و أشق أفواهًا لمد الريح"
لعلي أسبق الأيام بالأحلام
أو يأتي الصباح
عشرون عامًا..
كل عام بين زحم الغيم أدفعه
أصارعه فيصرعني
أكابده هنا وحدي..
و لا يمضي..
و دمعي فوق ورد الخد يفضحني
يُمّزِّقُ مهجة المشتاق
و يزحف تارِكًا يأسي
و لا يمضي!!
و أصبر عَلَّ هذا الشوق يحمله لعينيكَ
فصارحني..
ألم يوصل لك الفرعون مرسالي؟
ألم يحمل لك الأشواق و الأحزان؟
فكيف تقول لي: "كلا"؟!!
أنا من أرسل الأشعار و الألحان
و ذقت عذابها وحدي..
فمرسالي قديم هَدَّهُ الترحال
و عاد الشوق يحمله لعينيكَ
و لم يأسِرْكَ من لَحْنِ!
و لم تكتبْ تُطَمْئِنّي
بأن القلب أملكه أنا وحدي..
أنا وحدي..
فلو لمست جفونك هزَّةَ المشتاقْ
و رعشة حبره الدامي على الأوراقْ
لأبصرت الحنين يذيب أشرعتي
فذا شعري.. و ذي أنّات آهاتي
فكي تتردد الأنفاس في حرفين أختنقُ
و كي تتلألأَ الأضواء في بيتين أحترقُ
و كي أنسى عذاباتي..
و أنسى أنني أفّاق
أمضي جاهلاً ذاتي
بذي الغربة..
نقشت اسمي على الصخر
نقشت الحب بالأنسام
بالشعرِ..
و بالنثرِ..
لتحمله الطيور لعطرك الغالي
فكم ودَّ الفؤاد لَوَ انَّهُ طيرٌ
لأهبط بعد طول البين يا وطني
على بابك..
و أطرقَه لتفتحَ لي
فألثمُ تربك الغالي
و أبكي بين أحضانك..
فسامحني..
لكل قصيدة قدرٌ و ذا قدري
بأن أحيا بعيدًا عن عذاباتك
بأن أحيا غريبًا لم يذق يومًا
جراحاتك..
و لكني..
و ربِّ الكون لم أهنأْ
بعيدًا عن شذا دارك..
و لم أعرف حبيبًا قد أناجيهِ
فكل الناس أرماسٌ
تُرائي قلبيَ الصّافي
لتحويهِ..
فسامحني..
لأن الحزن ينزف في فؤادي كلَّ خاطرةٍ
جعلت الحزن عنواني..
فسامحني..
فمن بؤسي و أشواقي إليك نظمت ديواني
و عدت و همهمات الشكِّ تصرخ بين ألحاني:
لماذا لم تحرك فيك ذكراي الحنين؟!!
أَوَ قد نسيت محبتي؟
أم لا أليق بأن أكون لك الحبيب؟
...
وطني الحبيب..
إن لم أكنْ حُبًّا لقلبك
فاعتبرني كاليتيم
و لأجل عينَيْ طفلك المحروم من ذاك الحنان
و لأجل من رَبَّتْهُ راحات الشقاء بذا الزمان
ارْدمْ بعطفك خندق الهجر العتيق
و امددْ دروب العنفوان..
فبودِّ طفلك لو إلى الصدر الحنون تضمُّهُ
وطني.. فقد آن الأوان..
...
وطني الحبيب..
قد علمتني غربتي عنك الكثير..
فالغربة السوداء مدرسةٌ
لكل مهاجِرٍ مشتاق
و قاسية هي الغربة
و لكن..
عَلَّمَتْني من تكون و علمتني من أنا
فرأيت جرحك غائرًا
و دموعك البكماء تخترق السكون
و أراك مرتعدًا من الوهم المصير..
لكن حبيبي.. كلُّنا ذاك المصير
و علمتني غربتي..
مهما سئمت فأطلقِ الأحلام تسبح في العنان
و اركنْ إلى قلب حنون
و اسبحْ بفكرك أينما يحلو له
و اطرحْ عن القلب الشجون
فلديك فجرٌ حالمٌ..
أما هنا..
صعبٌ على الأحلام أن تكسو العيون
و علمتني غربتي..
مهما تلاشت أسطر الأحلام بين قصيدتي
ألاّ ألين..
و إن توحشتِ الطريق و أقفرت
سيضيئها الدمع الدفين..
رغم احْتدام كواكب العتماء في عيني
و رغم تصارع العبرات
لأبقى إبنة للنيل أعشقه و يعشقني..
و مهما برق ذاك الحلم في عيني
تبدَّدَ و استحالْ
و إذا السؤال يجيبه
بعد الشَّقا ألفا سؤالْ!!
لا زال فجر الغَدِّ مرتقبًا
ليمحُوَ من قواميس الدُّنا
لفظَ المحالْ..
...
وطني الحبيب..
حتى أعود إليك أشواقي..
و لا تنسَ السلام لكل أحبابي و أصحابي
و حتى تنطوي الغربة
سأكتب كل يومٍ كي أطمئنكَ
بأني رغم طول البعد عن عينيك أعشقكَ
و أذكر تلْكُمُ الأيام..
و أسألها لأن تمضي
لتطوي غربة الأحباب
بإذن الله يا وطني
سأرجع كي نعيد الروح للبدنِ
فقد سئم الفؤاد الرَّحْل و الترحال
سأرجع حاملاً باقة
صففت بها عبير الشرق و الغربِ
و مُنْيَةَ أمَّة العُرْبِ
أقدمها لعينيكَ..
فمهِّدْ لي السبيل..
لنعيد ما انتزعته أيام الرحيل من الحنين..
و نهدَّ بالآمال باب المستحيل..