يا صاحبَ القصرِ الذي شادَهُ - مصطفى لطفي المنفلوطي

يا صاحبَ القصرِ الذي شادَهُ
فاستنفد المذخورَ من وُجدِه

أقمته كالطودِ في هَضبةٍ
تَردُّ عادي الدهرِ عن قَصدِه

أزرتَهُ الأَبراجَ في جَوِّها
فانتظمَ الأنجمَ في عِقدِهِ

أطلعتَ فيه كَوكباً دانِياً
أغنى عن الشاسِع في بُعده

قَلَّصتَ ظلَّ اللَّيلِ عنه وَمَا
رعيتَ حقَّ اللَهِ في مَدّه

أنشأتَ روضاً زاهراً حَولَهُ
يُعطِّرُ الكونَ شَذا رَندِه

ورُحتَ بالرتبةِ في صَدرِهِ
تُدِلُّ دَلَّ المَلكِ في جُندِه

كأَنَّما الرُتبةُ كلُّ الذي
يُنِيلهُ الكوكبُ مِن سَعدِهِ

هَب أنَّه اللوفَر في حسنه
أو قصر يوكنهامَ في جده

وهبكَ روكفيلر تحوى الذي
يُضلِّلُ الحاسبَ في عَدِّه

فالمالُ إن أجهده ربه
فالفقرُ والعُدمُ مدى جَهدِه

والمالُ كالطائِر إن هومت
حُراسه طار إلى فنده

والمجدُ للمالِ وكلُّ الذي
تراهُ من مَجدٍ فَمِن مَجدِه

هذا شِهابٌ ساطِعٌ مُشرِقٌ
والليلةُ الليلاءُ من بَعدِه

بنيتَ للبنك فأغنيته
بجدك المبذول عن جَده

بنيت ما لو قدروا قدره
لقيل هذا الميتُ في لَحدهِ

وأدتَ فيه الأمل المرتجى
حيا ولم تأس على وأدِه

أغمدت فيه صارماً طالما
تثلم الدهرُ على حده

واريت فيه ولداً ليته
قضى قرير العينِ في مهدِه

وليته ما شبَّ في زُخرِفٍ
يبكي يد الدهرِ على رَغده

فليسَ من يأسى على مطلبٍ
ناءٍ كمن يأسى على فقدِه

غدرت بالبيت الذي بثك ال
وُدَّ فلم تُبقِ على وُدِّه

هدمته والمجد ظلٌ لَهُ
فما بَقاءُ الظلِ من بَعدِه

قد كنتَ مِن كُوخِكَ في نِعمةٍ
تُذيبُ قَلب الدهرِ من حِقدِه

وكانَ يَنتابُكَ مُستَرفِداً
مِن بِتَّ مُحتاجاً إلى رِفده

فاليوم لا القصرُ كما تَرتجى
منه ولا الكوخُ على عَهدِه

واليومَ رَبُّ القصرِ يُذرِي دَماً
مِن جَفنِهِ آناً ومِن كِبدِه

يَدعو إليه الموتَ مِن بَعدِ مَا
نَالت يَدُ الأيامِ مِن أَيدِه

واسوَدَّ ذاكَ الجونُ من جِلده
وابيضَ ذاك الجَونُ من فَودِه

هل يعلمُ الشرقيّ أَنَّ الردَى
سِرٌّ بصدر الدهرِ لم يُبده

وأنه يفجؤنا بالأَسى
يوماً خروجَ السيف مِن غمدِه

وأَنَّ هذا الدهرَ في هَزله
يَغُرُّ بالكاذِبِ من وَعدِه

فهزلُه أَنفذُ مِن جَدِّه
ورَهوُه أَسرَعُ مِن وَخده

ويحٌ لمصرٍ ولأَبنائِها
مما يَريغُ الدهرُ مِن كيدِه

نعيشُ بالهمِّ ونرضى به
عيشاً ونقضى العمرَ في نقده

كشَارِب الكَأسِ يُرَى عابِساً
مِنه ولا يَقوى على رَدِّه

فإِن لَمحنا بارقاً خاطفا
لا نسمعُ القاصفَ من رَعدِه

نُسرِعُ خوضَ البحر في جَزرِه
وجزرُهُ يُنبئ عَن مَدِّه

والكلُّ ظمآنُ يُرَى صادِراً
وما قضى الإِربةَ من وِردهِ