ما يشبه النسيان - علي الدميني

و" البارحة ْ"
فاض اليمام على" رواشين " البيوت، وخضرة الأغصان، "والباصات ِ" ، والعربات ِ وهي تئن خلف خيولها البيضاء .
رائحة القرنفل والبهار، وبرقع الشقراء في سوق الندى،
و اثنان .
.
كان البيت ُ أقربَ ما يكون ُ "لباب مكة َ "
ثمة انفتحت على المعنى تراتيل الصبا:
خفقان قلب مراهق ٍ يكفي لإغراق المدى ،
وصبية ٌ عطشى على باب المدينة ْ.
.
الباب لصق الباب ِ،
والشباك لا يكفي لرسم تحية العشاق في الخشب العتيق،
وليس لي " نايٌ " لأرسل صوته في الريح كي تتعانق الأصوات ْ،
لا قمرٌ يطلُّ على سطوح الدار ِ، ألمح ُ فيه وجنتها
و لا طفلٌ نحمّله الرسائل دون أن يدري،
ولا أمٌ تسامرني ،
لتعرف أي فاكهة ٍ يئن بحملها وجعي،
وما في جنتي من غامض الأسرارْ.
.
"و البارحة ْ "
لقميصها الأزرق ْ.
.
لأزهار اليدين ِ ،
وما تيّسر من دفاتر في حقيبتها،
إذا ما حان وقت " الباص" ، أرنو خلف نافذتي
للفتتها،
وهفهفة الحرير على جدائلها،
وأمضي صوب مشيتها كمن يتعقّب الأمطارْ.
.
وأنا البعيد عن التفاصيل الصغيرة ِ
عن رهافة قبلة ٍ مرسولة ٍ بالكفِّ،
عن معنى ارتخاء عباءة الكتفين،
عن خطواتها الكسلى بعيداً عن عيون البيت،
يدعوني بريق الشام في العينين،
يدنيني نهارٌ ناهض ٌ في الوجه،
أذكر أنها كانت تغني ) إذ أباغت صبحها بالهمس )
" كيفك إنت َ ملا إنت َ"
.
وأنا القريب من احتشاد النار في لغتي ،
أخبئ رعشتي في المشي
اركض نحو مدرستي
وأخجل ُ ، حين أبدو شارداً في الفصل ِ،
يفجؤني المعلّمُ :
هل قرأت لشيخنا "طوق الحمامة "؟
.
ناح الكلام بقرب قافيتي، فأشعلتُ السراج على سطوح الدار ِ،
ضوئي شاحبٌ ،
وضياؤها قمرٌ تعلّق في جدار الليل ٍ، فاغتسلت بسحنته المدينة ْ .
.
ما كان أشبهَنا "بعذريّ الهوى " ، يا شيخنا، في الإلف والإيلافِ،
في التقوى وفي الإنصاف ِ،
في رسم الطريق إلى عيون صبية ٍ شامية ٍ مغسولة ٍ
برهافة الأسلاف ْ.
.
كان " ابن حزم " يظلني بقميصه،
و رياحه،
و ذهابه ِ في العشق متكئاً
على ما تصنع الأوصاف ْ.
.
نحتاج أن نفنى طويلاً في دنان الحب ، يا شيخي، لنبلغ سدرة الأفعال:
أن نتبادل المعنى على الكفين ،
أن نتذكـّر الذكرى التي كنا وضعنا خبزها في أول التنور،
لم تنضج بما يكفي لميلاد " البنين "،
ولم ير التقويم ُ صورتها غلافاً لائقاً بالوقت ِ،
لم يقبل بسحنتها"جنون " الأهل ِ ،
أو تدْخل ببسمتها الوديعة ِ "دفتر الأحوال ْ".
.
و " البارحة ْ "
نام الزمان على صفات الجمر، واعتادت يدي ْ أن تسكب الذكرى ، أوان الفقد،
في قدح ٍمن " النسيان " .
.
فأعـِلُّ من ولعي سراب ظلال لهفتها
ولفتتها
ورنّة كعبها في الليل وهي تشدُّ خيمة نومها في السطح ِ،
أو تنضو ملابسها على حبل الغسيل ِ،
وصوتها متنسِّــكاً في بحّة الأشواقِ،
يلمع نائياً، في عتمة الجدرانْ.
.
و أغيم ُ في وجعي قريباً من تفاصيل البيوت ِ
و وجه عاشقةٍٍ تحلّ رموش عينيها
على كحل الندى
و تمدّ ساعدها لغصن الشمس ٍ
منحدراً إلى باب المدينةْ.
.
واصبّ في قدحي ْ خيال العمر ِ
منقوعاً مع النعناع و الليمون ِ
.
ها قد فرّت العربات من طرقاتها
وتعرّت الأيام من أيامها
وتكدّست كسلى على أقدامي الساعات ْ
..........
......
.....
...
" و البارحة ْ"
ضجّ المكان ببرق بسمتها
وفرّت هيبة الأشياء من أسمائها الأولى
فحلّ الشام في لغتي،
و هلّت فتنة الأطياف ْ.
" و البارحة "
.
فاض اليمام على الصباح ِ
و كنت أشرب قهوتي في البهو،
أغنية ٌ " تسرسب "أنــَّة ً شفوية ً في السقف، "كيفك إنت َ ملا إنتَ"
كانت امرأة ٌ تراسلني بعينيها،
فألمس نابضاً في الصدر - كنت أظنه قد مات
أو سئم اعتياد تشابه السنوات ِ –
.
يرقص ُ
ثم يرقص ُ
ثم يقفز ُ
نحو مقعدها،
ويسألها
ـ بصمت ٍ قارب الستين ـ
"هل أنت ِ"
فأنّـَّت : آه ِ هل "إنت َ"؟
.
لم أسلُ سيدتي ،
و لكني رأيت العمر يشفع لي كمتكِئ ٍ على وجع القصيدة ِ
أن تكوني في مجاز الشعر ذاكرتي،
و مجمرتي،
وجرحَ " الناي ِ " حين تضمّهُ كفّان ْ.
.
يا الله ...
أي ُّ تميمة ٍ حفظتك في الطوفان ِ ؟
قالتْ:
صرت ُ مملكة ً بها اثنان ْ ،
أنتَ وصاحبي
فضللت ُفي الطرقات ِ،
حتى مسّني ما يشبه النسيان !!
*
25/11/2006م