نمَّ الصَبا ، وانتبهَ الطائرُ - محمود سامي البارودي

نمَّ الصَبا ، وانتبهَ الطائرُ
وَاسْتَحَرَ الصَّاهِلُ وَالْهَادرُ

وأَضْحَتِ الأَرْضُ لِفَيْضِ الْحَيَا
مَصقولة ً يَلهو بِها الناظِر

تَبْدُو بِها أَنْجُمُ زَهْرٍ لَهَا
مَنَازِلٌ يجْهَلُهَا الْخَابِرُ

كأنَّما ألبسها نَثرة ً
مِنَ النُّجُومِ الْفَلَكُ الدَّائِرُ

فقُمْ بِنا نَلهُ بِلَذَّاتِنا
فَإِنَّمَا الْعَيْشُ لَهُ آخِرُ

وَلاَ تَقُلْ: نَنَظُرُ مَا في غَدٍ
رُبَّ غدٍ آملهُ خاسِرُ

فَإِنَّمَا الْعَيْشُ وَلَذَّاتُهُ
في سَاعَة ٍ أَنْتَ بِهَا سَادِرُ

لا يَغنَمُ الَّلذَّة َ غَيرُ امرئٍ
لَيْسَ لَهُ عَنْ لَهْوِهِ زَاجِرُ

قَد خبرَ الدّهرُ ، فما غائبٌ
يجْهَلُهُ مِنْهُ، وَلاَ حَاضِرُ

يَا سَاقِيَيَّ، اعْتَوِرَا كَأْسَهَا
فَلِي بِها عَنْ غَيْرِهَا عَاذِرُ

حَمْرَاءُ تُلْقِي بِلَحَاظِ الْفَتَى
صِبْغاً بِهِ يَعْتَرِفُ النَّاكِرُ

تَفْعَلُ بِالشَّارِبِ أَضْعَافَ مَا
جَرَّ على عُنقودِها العاصِرُ

عَتَّقَهَا الدُّهْقانُ في دَيْرِهِ
حِيناً ، ولم يَشعر بِها شاعِرُ

شَجٍ بِها، يَكْتُمُهَا نَفْسَهُ
وهو ليرضاها غَداً صابِرُ

حتَّى إذا تمَّت مواقيتُها
وزالَ عَنها الزَّبدُ المائرُ

جاءَتْ وَقَدْ شَاكَلَهَا كَأْسُهَا
فاشتبهَ الباطِنُ والظَّاهِرُ

بِمِثْلِها تُعْجِبُنِي صَبْوَتِي
وَيَزْدَهِينِي اللَّيْلُ وَالسَّامِرُ

فَمَا لِهَذِي النَّاسِ في غَفْلَة ٍ
عمَّا إليهِ يَنتهى السَّائرُ ؟

أَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ مَضَتْ قَبْلَهُمْ
مِن أُممٍ ليسَ لها ذاكِرُ؟

إِنْ لَمْ يَكُنْ في الأَمْرِ مِنْ حِكْمَة ٍ
فَفِيمَ هذَا الشَّغَبُ الثَّائِرُ؟

كلُّ امرئٍ أسلمهُ عَقلهُ
فَمَا لَهُ مَنْ بَعْدِهِ نَاصِرُ