أَدَارَ على النّدمان كأَسَ عقارِهِ - عبد الغفار الأخرس

أَدَارَ على النّدمان كأَسَ عقارِهِ
وحيى بوردِ الخدِّ من جلِّناره

وفي طرفه للسكر ما في يمينه
فكلتاهما من خمرهِ واختماره

وماس فمال البان إذ ذاك غيرة ً
عليه وأزرى فيه عند ازوراره

على أَنَّه من روضة الحسن جَنَّة ٌ
ولكَّنه ما حفَّها بالمكاره

وقد نسجت أيدي الربيع ملابساً
مفوَّفة ً من ورده وبهاره

وسال لجين الماء فوق زمرد
يحلّيه من نّواره بنضاره

وأصبح مخضراً من النَّبت شارب
يروق ويزهو بهجة بکصفراره

وقد رَقَصَتْ تلك الغصون تطرباً
لبُلْبُلِه الشادي وصوت هزاره

تألَّفَ ذاك الشكل بين اختلافه
وأبْدَعَ في إحسانه وابتكاره

فهذا يَسُرُّ الناظرين کصفرارُه
وهذا زها مخضره باحمراره

وكم راح يغني عن الزهر أغيدٌ
بنرجس عينيه وآس عذاره

عَصَيْتُ عذولي في هواه ولائمي
وما زلت في طوع الهوى واختياره

أطال بطول القدّ في الحبّ حسرتي
وحيرَّني في خصره واختصاره

ولله مخضر العذار عشقته
وحمر المنايا السود عند اخضراره

أُجادل عذَّالي على السخط والرضا
وإنّي لراض بالهوى غير كاره

يقول الهوى العذريّ في مثل حبِّه
إذا لم تطقْ هجر الحبيب فداره

وليلٍ كيومِ النَّقع أسودَ فاحمٍ
تخوص بكاسات الظّلا في غماره

أَغَرْنا على اللّذات ما ذكرت لنا
وأَبْعَدَ كَلٌّ عندها في مغاره

وقد زار من أهوى على غير موعدٍ
فيا قربَ منآه وبعد مزاره

فآنسني في وَصْله بعد هجره
وقد آلفَ المشتاق بعد نفاره

وما زال حتى صوَّب النجم وانطوى
رداءُ ظلام الليل بعد انتشاره

ولاحت أسارير الصباح وبشَّرتْ
بأنَّ الدجى قد حان حين بواره

ولم يبق من أبناء حام بقية
فما شقً عن حامٍ ولا عن غباره

يدير علينا كأسَ راح رويّة
تجرِّدُ من يروى بها من وقاره

تخبرنا عن نار كسرى لعهده
وقد برزتْ في طوقه وسواره

فما نزلت والهمّ يوماً بمنزلٍ
وما أَقْبَلَتْ إلاّ لأجل فراره

وقلنا له هاتِ الصَّبوح فكلُّنا
يُريدُ شفاءً بالطلا من خماره

ونحن بروض رقَّ فيه نسيمه
وجرَّ على الأنفاس فضل إزاره

وأهدت إلى الأرواح أرواحها الصبا
أريج خزاماه وطيب عراره

وأنعمُ عيشٍ ما حظيتُ برغده
وكنتُ لعبد الله ضيفاً بداره

أمنتُ طروق الهم من كل وجهة
إذا كنتُ يوماً نازلاً في جواره

أقرُّ به عيناً وأشرح خاطراً
وأشرك شكر الروض وبل قطاره

فمن فضله أنّي أبوء بفضله
وأفخر ما بين الورى بافتخاره

ولا خير فيمن لا يؤمَّل نفعه
ولا يتّقى من بأسه وضراره

ومنذُ رأيتُ اليُمن طوعَ يَمينه
وَجَدْتُ يَساري حاصلاً في يساره

وقيَّدني منه رقيقُ جميله
فَلَسْتَ تراني مطلقاً من إساره

أبرَّتْ به في الأنجبين ذخيرة
وحسبُك ما كان الغنى بادخاره

أنزّه طرفي في محاسن وجهه
وإنْ غاب عَنِّي لم أزل بانتظاره

وإنّي لأهواه على القرب والنوى
وأطربُ في أخباره وادِّكاره

جَنَيْتُ به غرس المودَّة يانعاً
وكل جميل يجتنى من ثماره

سريع إلى الفعل الجميل مبادر
إلى الخير في إقباله وبداره

رعى الله من يرعى من الخلّ عهده
وأدّى له ما ينبغي لذماره

إذا دار في زهر العلى فلك العلى
فآل زهير الصّيد قطب مداره

صناديدُ يشتارون من ضربِ العلى
وشوك القنا الخطيّ دون اشتياره

لقد عرف المعروف من قبلها بهم
وشيد بفضل الله عالي مناره

وهل تجحد الحساد آية مجدهم
وَقَد طلَعت في الكون شمس نهاره

بهم كلّ مقدام على الرّوع فاتك
بسطوته في جنده وکقتداره

ويفترّ في وجه المطالب ضاحكاً
ولا الأقحوان الغض عند افتراره

إذا استنصر الصمصام أيّد حزبه
وقام اليماني قائماً بانتصاره

إذا قيل رمح حدّ سنانه
وإنْ قيل عضبٌ كان حدَّ غراره

وإنْ عدَّ كبّار الأنام فإنّما
أصاغرهم معدودٌ من كباره

همُ خيرُ من لا يبرح الخيرُ فيهم
وما كلُّ من ألْفَيْتَه من خياره

تضوّعَ مسكيّ الشذا من ردائه
بعنصره الزاكي وطيب نجاره

فهم أبحرُ الجدوى تفيض ولم تغضْ
فكم وارد عذب الندى من بحاره

يهون عليه المال إنْ عزّ أو غلا
وينظر أسناه بعينت احتقاره

صفا مثل صفو الراح لذَّتْ لشارب
ودارت كما شاء الهوى في دياره

فلا زالت الأفراح حشوَ ردائه
ولا برحتْ عن برده وشعاره