نبيت على علم يقين من الدهر - لسان الدين الخطيب

نبيت على علم يقين من الدهر
ونعلم أن الخلق في قبضة القهر

ونركن للدنيا اغترارا بلهوها
وحسبك من يرجو الوفاء من الغدر

ونمطل بالعزم الزمان سفاهة
فيوم إلى يوم وشهر إلى شهر

ونغري بما يفنى المطامع والهوى
ونرفض ما يبقى فيا ضيعة العمر

وندفع أحبابا كراما إلى الردى
ونسلو ونلهو بعد ذاك عن الأمر

هو الدهر لا يبقى على حدثانه
جديد ولا ينفك عن حادث نكر

وبين الخطوب الطارقات تفاضل
كفضل من اغتالته في رفعة القدر

ألم تر أن المجد أقوت ربوعه
وصوح من أدواحه كل مخضر

ولاحت على وجه العلاء كآبة
فقطب من بعد الطلاقة والبشر

أمولاتنا الكبرى فداؤك أننا
برئنا إلى الأشجان من شيمة الصبر

فقدناك فقد النواظر نورها
وكنت لنا نورا يضيء لمن يسري

عجبت لمغتال الردى كيف لم يرع
لمنزلك المحفوف بالنهي والأمر

وكيف انبرى صرف الحمام مصمما
خلال الصفاح البيض والأسل السمر

ستور من الدين المتين كثيفة
وكم دونها للملك والعز من ستر

نعد الرماح المشرفية والقنى
ويطرق أمر الله من حيث لا ندري

هو الدهر يجري في البرية حكمه
فعز الغنى سيان أو ذلة الفقر

رمى تبعا بالحتف قصدا فلم يكن
لأتباعه في ذلك الخطب من نصر

وأردى أنوشروان كسرى بصرفه
كسيرا ولم يترك لقيصر من قصر

لقد فجع الإسلام منك وأهله
بذخر بعيد الصيت مشتهر الذكر

وواحدة فاقت نساء زمانها
كما فضلت أمثالها ليلة القدر

وهل خفض التأنيث للشمس رتبة
وهل رفع التذكير من رتبة البدر

أصالة آراء وفضل سياسة
وفخر انتماء دونه منتهى الفخر

وديوان مجد ضمنت صفحاته
خلال الملوك الغالبين بني نصر

بإبقاء معروف ورعي وسيلة
بإيواء ملهوف بنصرة مضطر

أرى سفر الدنيا يرجى إيابه
... ... ... ... إلى الحشر

أعيدي لقصر الملك منك التفاتة
ولو بمزار للخيال الذي يسري

فكم فيه من قلب لبعدك خافق
ومن لوعة تذكي ومن عبرة تجري

وشمل جميع فرقته يد النوى
ومرآى بديع غيرته يد الدهر

ومنصب ملك أوحشت جنباته
وهالة إيوان تراءت بلا بدر

وما كنت إلا الشمس يحيا بك الورى
على بعد العلياء أو رفعة القدر

وهيهات من للشمس منك بمشبه
كمال بلا نقص ونفع بلا ضر

حملنا على الأعناق منك سحابة
مباركة السقيا مقدسة القطر

ولما أتينا اللحد في غلس الدجى
رأينا أفول الشمس في مطلع الفجر

فلو أن قبرا صار للناس قبلة
جعلنا مصلانا إلى ذلك القبر

ولو وجد الخلق السبيل لتربة
حوت لحدك المكنوف بالفضل والبر

لطافوا بها سبعا ولبوا وأحرموا
ففازوا لديها بالمثوبة والأجر

وذادت عن العلياء عزمة يوسف
سليل علاك الطاهر الملك البر

ولكنه حكم من الله نابع
يقابل بالتسليم والصبر والشكر

ودونك من عبد لملكك نادب
ثناء كما هب النسيم على الزهر

ولو كان في وسعي عناء بلغته
بما يقتضيه قدرك الضخم لا قدري

ووالله ما وفيت حقك واجبا
ولكنه شيء أقمت به عذري