أنَا و بنُو أمِّي - عمارة بن صالح عبدالمالك

شاعرٌ أوحدُ في هذا الوجودْ
لمْ أجئْ منْ كوكبٍ آخرَ
لا من زُحَلٍ
لا من عطاردْ!
إننّي فردٌ بسيطٌ من ترابٍ
جُلُّ فكرِي
جلُّ شعرِي
جلُّ نومِي
جلُّ صحوِي
جلُّ أكلِي
جلُّ شُربِي
جُلُّ لبسِي
من ترابْ.
و وجودِي بينكمْ
يا سادتِي
يا سيداتِي
لم يكنْ رِميةَ أمٍّ ساقطهْ
و قدومِي لمْ يكنْ
في صحونٍ طائرهْ!
غيرَ أنّي شاعرٌ أوحدُ كونِي
إنْ تغنَّيتُ بشعرِي
لا أرَى لي سامعينْ!
ليسَ بالأخرسِ شعرِي
ليسَ معقودًا لسانِي
إنّما قومي أناسٌ جاحدونْ.
أبدًا
يا بني أمِّي اجْحدونِي
صنّفوني ما تشاؤونَ
حديدًا أو نحاسًا
ذهبًا أو نيكلًا
سيظلُّ الأصلُ دومًا
من ترابْ!
***
سَادتي!
إنّني لا أرتجي عزًّا لنفسِي
من وراءِ الكلماتِ
و النجوميةُ و الشهرةُ ليسَا
مطمحًا من أمنياتِي
منذُ أنْ فتَّحتُ عينيَّ على
عالمِنا المملوءِ ظلمًا
لمْ أذقْ طعمَ الهنَا
و تشاءمتُ بقومِي
و رأيتُ النّحسَ يسري في دمِي
مذْ كنتُ في أرحامِ أميِّ
أيها السَّادةُ!
إنَي الأملُ الضّائعُ في غابِ الثعالبْ
بينَ أشواكٍ و وَحْلٍ و طحالبْ
و بنُو أمِّي و أهلِي
قدْ غَدَوْا شرَّ عُداتِي
حجزُوا كلَّ الّذي أملكُه
في هذه الدّنيا
طعامِي و شرابِي و حصيرِي
ثمّ باعوهُ إلى السّيّارةِ المُرتحلينْ
صادرُوا شعرِي
و فكرِي منْ دماغِي اسْتأصلوهُ
مزّقُوا عنِّي قميصِي
و رمونِي شِلْوَ أحزانٍ
متاهاتٍ سحيقهْ.
حَرمونِي أنْ أرَى وجهِي المَلاكيَّ
بأنهارِ الغرامِ القُدُسِيَّهْ
في شروقِ الشّمسِ
في ضوءِ الأماسِي
في سَماواتٍ بريئاتٍ نَقِيَّهْ
قَتلونِي أوجَ عُمْرِي و يُنوعِي
و ادَّعَوْا أنَّ ذئابًا
هشَّمتْ جلَّ ضُلوعِي!
أيُّها السَّادهْ!
***
مَا لكمْ إذْ جئتكمْ
لا تفرحونْ؟!
هلْ ترونَ الشِّعرَ ضربًا منْ جُنونْ؟ّ!
أمْ ترونَ الشِّعرَ غوصًا في المُجونْ؟!
خبِّرونِي
إنّكمْ بالصَّمتِ قدْ أذْهلتمُونِي
إنّكمْ بالكبتِ قدْ جرَّعتمُونِي
ألفَ كأسٍ منْ منونْ!
فقليلًا - سَادتِي-
منْ غضبٍ يُدنِي القمرْ
و قليلًا من رواغٍ
عكسَ تيَّارِ القَدرْ
و اقعدُوا
في انتظارِ السَّلسبيلْ
إنَّ ربِّي في عَوَانِ الْقَاعِدينْ.
***
أيُّها السَّادهْ!
إنّني المبعوثُ فيكمْ
فارسًا شهمًا نبيلاً
كيْ أبثَّ الآنَ أمجادَ الأُبُوّهْ
كاذبٌ مَنْ قالَ:
"زِنْدِيقٌ كفورٌ
يدَّعِي وحيَ النُّبوَّهْ!"
قدْ كفانِي شاعرًا
منْ كِرامِ الْكاتبينْ
أحفظُ الأسرارَ جدًّا
في عيونِي
و متونِي
لا تُجلِّي أيَّ شيءٍ
منْ أقاويلِ الوُشاةِ الْكاذبينْ
فَافْتحُوا آذانَكمْ
و اسْمعونِي
و اغْمضُوا أعينَكمْ - إنْ شئتمُ -
و اتبعونِي
إنّني عبدٌ صدوقٌ و أمينْ
لا أبالِي إنْ تمادتْ شهرتِي
أو تولَّى بعضُها
و مَباديَّ بِمالِ العَالمينْ
ثمَّ لمْ يخطرْ على بالِي
بأنْ أخرجَ يومًا
عنْ نِظاماتِ المَجرَّهْ
فَدعونِي ملءَ شِدقيَّ
أنادِي ألفَ مرَّهْ:
"أنا ما جئتُ إليكمْ
- إخوتِي -
إلّا لكيْ أعليَ منْ شأن قُرَانَا الْمُسْتَعَرَّهْ."
***
فَاجْعلُوا فِي صُحُفِ اليومِ عَمودًا
و افتحُوا لِي
في المَجلَّاتِ مجالًا
و امْنحونِي بعضَ وقتِي
أنتقِي فيه شتاتِي
و اتْركُوا لِي
قلَمِي ...
أحْرُفِي ...
أدَواتِي ...
كيْ أداوِي
كُلَّ مَنْ كانَ بَريحًا أوْ جَريحًا
كتَبَ اللهُ شِفاءً
في شفاهِي و دَواتِي!
***
أيُّها السَّادهْ!
شاعرٌ أوحدُ
لمْ أكتبْ قصيدًا واحدًا
في بلاطِ الأمراءِ
كيفَ للشِّعرِ السَّماوِيِّ
بأنْ ينزلَ يومًا
في ميادينِ البِغاءِ؟!
قبْلَ أنْ أبدأَ مِشوارِي البُطوليَّ
احترفتُ الْيَأْسَ في سِلْكِ البِطالهْ
و حمدتُ اللهَ
أنْ أيقظتِ الإحساسَ في صدرِي
و أنْ فجَّرتِ الشعرَ لَديْ.
فاقْبلُوا - يا إخوتِي -
نصحَ حكيمٍ
أيقظُوا مَا اُغْتِيلَ فينا مِنْ تجاربْ
منذُ آلافِ السِّنينْ
و اتْركُوا
جانبًا علمَ السُّلَالهْ
و خذُوا جُمْجُمَةَ الشَّعبِ
... ادْرُسُوهَا جيِّدًا
علّكمْ تلقونَ مِنْ بعْدِ الضَّلالهْ:
أصلُنا
ليسَ من نسل القرود الخاسئينْ.