رعينَ كما شئنَ الربيعَ سوارحاً ، - ابن المعتز
رعينَ كما شئنَ الربيعَ سوارحاً ،
يَخُضْنَ كلُجِّ البحرِ بَقلاً وأعشابَا
إذا نَسَفَت أفواهُها النَّورَ خِلتَه
مواقعَ أجلامٍ على شعرٍ شابا
فأفنَينَ نَبتَ الحائِرَينِ وماءَه،
وأجراعَ وادي النخل أكلاً وتَشرابا
حواملُ شحٍّ جامدٍ فوق أظهُرٍ،
و إنْ تستغثْ ضراتهنّ بهِ ذابا
بطانُ العوالي والسيوفِ بغرها ،
ويَكشِرنَ أضراساً حِداداً وأنْيابا
إذا ما رَعَتْ يوْماً حسِبتَ رُعاتَها
على كلّ حيٍّ يأكلُ الغَيثَ أربابا
فقد ثقلت ظهرَ البلاد نواهكاً ،
إذا ما رآها عينُ حاسدها عابا
وكان الثّرى فيها مَزاراً مُوَقَّراً،
تضمّنَ شَهداً بل حلا عنه أو طابا
إذا ما بِكاة ُ الدَّرِّ جادَتْ بمَبعَثٍ،
كما سلّ خيطٌ من سدى الثوب فانسابا
رأيتَ انهمارَ الدَّرِّ بينَ فُروجِها،
كما عصَرت أيدي الغواسل أثوابا
كأنّ على حلابهنّ سحائباً ،
تجود من الأخلافِ سحّاً وتَسكابا
خوازنُ نَحضٍ في الجُلودِ، كأنّما
تُحمَّلُ كُثباناً من الرّملِ أصْلابا
فتلكَ فداءُ العرضِ من كلّ ذيمة ٍ ،
و مفخرُ حمدٍ يبلغُ الفخرَ أعقابا
وليلة قُرٍّ قد أهنتُ كريمَها،
و لم يكُ بي شحٌّ على الجود غلابا
وقُمتُ إلى الكومِ الصّفايا بمُنصُلي،
فصَيّرتُها مَجْداً لقَوْمي وأحْسابا
فباتَت عَلى أحجارِنا حَبشيّة ٌ
تخاطبُ أمثالاً منَ السودِ أترابا
يكادُ يبُثُّ العظمَ ماردُ غَلِيها،
إذا لبستْ من يابسِ الجزل جلبابا
عجالاً على الطاهي بإنضاجِ لحمهِ ،
سراعاً بزاد الضيفِ تلهب إلهابا
وقد أَغتدي من شأنِ نفسي بسابحٍ،
جوادٍ كميتِ اللونِ يعجبُ إعجابا
فأتحَفَني ما ابتلّ خَطُّ عِذاره،
فإن شئتُ طيّاراً، وإن شئتُ وثّابا
فنلنا طريَّ اللحمِ ، والشمسُ غضة ٌ ،
كأنّ سناها صبّ في الأرض زريابا
فإن أمسِ مطروقَ الفؤادِ بسلوة ٍ ،
كأنّ على رأسي من الشيبِ أغرابا
و خلتُ نجومَ الليلِ في ظلم الدجى
خِصاصاً أرى منها النهار وأنقابا
و فجعني ريبُ الزمانِ بفتية ٍ ،
بهم كنتُ أكفى حادثَ الدهر إن رابا
و آبَ إليّ رائحُ الذكرِ والتقتْ
على القلبِ أحزانٌ ، فأصبحنَ أوصابا
فقد كان دأبي جنة َ اللهوِ والصبا ،
و ما زلتُ بالذاتِ والعيشِ لعابا
وليلة ِ حُبٍّ قد أطَعتُ غَوِيَّها،
وزُرتُ عَلى حَدٍّ من السيفِ أحبابا
فجِئتُ على خوْفٍ ورُقبة ِ غائرٍ،
أُحاذِرُ حُرّاساً غِضاباً وحُجّابا
إلى ظبية ٍ باتتْ ترى في منامها
خيالي ، فأذناني ، وما كان كذابا
وكأسٍ تلقّيْتُ الصّباحَ بشُرْبِها،
وأسقيتُها شَرباً كِراماً وأصحابا
ثوت تحتَ ليلِ القارِ خمسينَ حجة ً ،
تردُّ مهوراً غالياتٍ وخطابا
وكنتُ كما شاءَ النّديمُ، ولم أكُنْ
عليها سفيهاً يفرسُ الناسَ صخابا
وغِرّيدِ جُلاّسٍ تَرى فيه حِذقَه،
إذا مسّ بالكفينِ عوداً ومضرابا
كأنّ يديه تلعبانِ بعودهِ ،
إذا ما تَغَنّى أنهضَ النّفسَ إطرابا
وقُمريّة ِ الأصواتِ حُمْرٍ ثيابُها،
تهينُ ثيابَ الوشي جراً وتسحابا
وتلقَطُ يُمناها، إذا ضربت به،
وتَنثُرُ يُسراها على العُودِ عُنّابا
و ديمومة ٍ أدرجتها بشملة ٍ ،
تشكى إليّ عضَّ نسعٍ وأقتابا
تَفِرُّ بكفّيْها، وتطلُبُ رحلَها،
و تلقي على الحادينَ ميسانَ ذبابا
كأنّي علَى طاوٍ من الوَحشِ ناهضٍ،
تَخالُ قُرُونَ الإجل من خلفِه غابا
غدا لثقاً بالماءِ من وبلِ ديمة ٍ ،
يقلبُ لحظاً ظاهرَ الخوفِ مرتابا
فأبصرَ لمّا كانَ يأمنُ قلبُه،
سلوقية ً شوساً تجاذبُ كلابا
وأطْلَقنَ أشْباحاً يُخَلْنَ عَقارِباً،
إذا رفعتْ عندَ الحفيظة ِ أذنابا
فطارت إليه فاغراتٍ كأنها
تُحاوِلُ سَبقاً، أو تُبادِرُ إنهابا
وماءٍ خَلاءٍ قد طرقتُ بسُدفة ٍ،
تخالُ به رِيشَ القَطا الكُدرِ نُشّابا
و قد طالما أجريتُ في زمن الصبا ،
وآمَنَ شَيطاني مِن الآن أو تابا
أرى المرءَ يدري للرزقِ ضامناً ،
و ليس يزالُ المرءُ ما عاشَ طلابا
و ما قاعدٌ إلاّ كآخرَ سائرٍ ،
و إن أدأبَ العيسَ المراسيلَ إدآبا
فيا نفسِ ! إنّ الرزقَ نحوكِ قاصدٌ ،
فلا تَتعَبي، حَسبي من الرّزق أتعابا