تعاط الصبابة أو عانها - البحتري
تَعَاطَ الصّبَابَةَ، أوْ عَانِها،
                                                                            لتَعْذُرَ في بَرْحِ أشْجَانِهَا
                                                                    وَمَا نَقَلَتْ لَوْعَتي لِمّةٌ،
                                                                            تَنَقَّلُ في حَدْثِ ألْوَانِهَا
                                                                    أوَائِلُ شَيْبٍ يُشِيرُ العَذُولُ
                                                                            إلَيْهَا، وَيُكْبِرُ مِنْ شَانِهَا
                                                                    إذا حُرّمَ اللّهْوُ مِنْ أجْلِهَا،
                                                                            غَلا في مَقَاديرِ أوْزَانِهَا
                                                                    وَإلاّ تَجِدْني مُطيعاً لَهَا،
                                                                            فَلَمْ أعْصِهَا كُلَّ عِصْيَانِهَا
                                                                    متى جِئْتُ بَائِقَةً في الهَوَى،
                                                                            فأسْرَارُهَا دُونَ إعْلانِهَا
                                                                    تَفَاضَ رِجَالٌ عَنِ المَكْرُما
                                                                            تِ، وَقد مَثَلَتْ نُصْبَ أعيانِهَا
                                                                    وَلمْ تَلْتَفِتْ لوُجُوبِ الحُقُوقِ،
                                                                            وَوَاجِبُهَا خَلْفَ آذانِهَا
                                                                    فتَحتُ يَدي ثَانيَ العطْفِ عَنْ
                                                                            كَذوبِ المَوَدّةِ، خَوّانِهَا
                                                                    وَقَدْ عَلِمَتْ خِلّتي أنّني
                                                                            أُفَارِقُهَا، عِنْدَ هِجْرَانِهَا
                                                                    وَإنّي لأسْكَنُ جَأشاً إلى
                                                                            رِبَاعِ الكِرَامِ، وَأوْطَانِهَا
                                                                    وتَعْتَدُّ نَفْسِيَ مِنْ مَالِهَا،
                                                                            وَمَا أبْعَدَتْ مَالَ إخْوَانِهَا
                                                                    يَظَلُّ حَمُولَةُ يَبْنِي الــعُلاَ
                                                                            وتَعْلُو المَعَالِي بِبُنْيَانِها
                                                                    يَكَادُ التَّرَفُّعُ مِنْ هَمِّهِ
                                                                            يُكَوِّنُهَا قَبْلَ أَكْوَانِهَا
                                                                    رَضِيتُ خَليلي أبَا غَالِبٍ،
                                                                            لِكَسْرِ الخُطُوبِ، وَإيهَانِهَا
                                                                    تُعُدُّ لَهُ فَارسٌ قُرْبَةً،
                                                                            وَزُلْفَى بكِسرَىابنِ ساسانِهَا
                                                                    إذا سُئِلَتْ عَنْهُ عِندَ الفَخَارِ،
                                                                            قالَتْ بأصْدَقِ عِرْفانِهَا
                                                                    يَطُولُونَ مِنْهُ بإنْسَانِهِمْ،
                                                                            وَللعَينِ طُولٌ بإنْسَانِهَا
                                                                    تَرُوكٌ لِمَا لا يَزَالُ الشَّرِيفُ
                                                                            يُفيدُ اعْتِلاءً بِتِرْكَانِهَا
                                                                    هَتَكْنَا إلَيْهِ حِجَابَ الدّجَى،
                                                                            بخُوصٍ تُبَارِي بِرُكْبَانِهَا
                                                                    يُكَلّفُنَا التِزَامُ النِّزَاعَ
                                                                            مَسَافَةَ قُمٍّ وَقَاسَانِهَا
                                                                    وَسِنُّ سَمِيرَةِ نَعْتِ الفَتَاةِ
                                                                            تَبَسَّمَ عَنْ ظَلْمِ أسْنَانِهَا
                                                                    تَبِيتُ المَطَايَا تُرَاقِي النُّجُومَ
                                                                            في مُشْمَخِرَّةِ مُصْدَانِهَا
                                                                    إذا استَشْرَقَتْ لَمَعانَ الثّلُوجِ
                                                                            أطَاعَتْ لَهُ قَبْلَ إبّانِهَا
                                                                    مَوَاكِبُهُ الطّيرُ في جَوّهِنّ
                                                                            فَوْقَ السّحَابِ وَأعْنَانِهَا
                                                                    إلى مَلِكٍ غُلِقَتْ عِنْدَهُ
                                                                            رِقَابُ المَديحِ بِأثْمَانِهَا
                                                                    تَبُوخُ المَعَالي، إذا لمْ يَكُنْ
                                                                            بكَفّيْكَ إذْكَاءُ نِيرَانِهَا
                                                                    وُقيتَ الحِمامَ بمَثْنَى النّفُوسِ
                                                                            مِنَ الحَاسِدِينَ وَوُحْدانِهَا
                                                                    وَتخْلَدُ في القَوْمِ حتّى يَكُونَ
                                                                            فِهَالُكَ أنْجَزَ أعْوَانِهَا
                                                                    حمَتْ قُضُبَ المَجدِ من أن تكون
                                                                            صِلاءً صَلابَةُ عِيدانِهَا
                                                                    وَعادَتْ بكَ الذّمَّ نَفسٌ جرَتْ
                                                                            إلى الحَمدِ، في طولِ ميدانِهَا
                                                                    أخَذْتَ العَطَايَا بتَكْرَارِهَا،
                                                                            وَإبْداءَ طَوْلٍ بِثُنْيَانِهَا
                                                                    أرَى بَذْلَهَا، عندَ إعوَازِهَا،
                                                                            سِوَى بَذْلِهَا عِندَ إمْكَانِهَا
                                                                    وَأحسَنُ مَأثَرَةٍ للكِرَامِ،
                                                                            إحْسَانُهَا بعْدَ إحْسَانِهَا
                                                                    وَمَا يَتَنَمّى إلى المَكْرُمَات
                                                                            فَيََفْزََعُهَا، غَيرُ فُرْسَانِهَا
                                                                    لَئِنْ عادَ بعديَ عَن ساحَتَيكَ
                                                                            بنَقصِ حظُوظي، وَخُسرَانِهَا
                                                                    وَكانَ اجتنابيكَ إحدى الذّنوبِ،
                                                                            وقَصْديكَ أَوَّلَ غُفْرَانِهَا
                                                                    وَما عُوقِبَتْ عُصْبَةٌ، أُمّنَتْ
                                                                            عَلى كُفّرِها، بَعدَ إيمَانِهَا
                                                                    فَإنّ خَوَاتيمَ أعْمَالِ مَا
                                                                            تَرَاهُ جَوَامِعُ أدْيَانِهَا