شكسبـير في مطار هيثرو - محمد الحارثي

في صالة المغادرين بوّابةٌ خشبيةٌ
تخطف أعُين العابرين إلى زنازينها الضيقة
وأقبيتها المضاءةِ بكُحل الفوانيس
إلى الكؤوس المترعة بأنخاب الآلهة والشياطين
على الزيتيات والمائيّات
حيث الحياةُ في مهدها الأولِ، في لحدها الأخيرِ
قبل الإقلاع تتنفّسُ هواءها المخضرم،
هواءها الفوّاح بالرائحة الخالدة
لهاملِتْ
المعتّق بخيط الصباح وإبرته
في قميص الذاهلة عن رمّانتيها الجانحتين
بعطر Poème
في صالة المغادرين
حيث المسافرون المتعبون من التحديق
في الشاشات ومتاجر السوق الحُرّة،
من الرحلات الطويلة بين آسيا والأمريكتين..
من ملابس أطفالهم الوسخة،
وتبرُّم زوجاتهم البدينات ومن الجلوس على
المقاعد الفائضة بلافتات ممنوع التدخين
عندما تتأخر رحلةٌ إلى
كوالالمبور، أنتيغوا، دبي
فيلادلفيا
وكوبنهاغن
يدخلون تباعاً إلى عَبق الفارس والحصان
تباعاً..
لاحتساء قدحٍ من البيرة والضباب.
متحدثين عن بلدانهم المطيرةِ والقاحلة، مزايا اللوفتهانزا
والسنغافوريّة، أعباء الحياة التي تسوطها عصا الضرائب
والأحلام المثلجة في حَبَب الكؤوس..
وعن شكسبير صاحب الحانة الغائب
غاطسين في حكاياتٍ لا زُبدة في دموعها
إلاّ عندما قال لي مسافرٌ إلى فيلادلفيا:
يؤخرون الرحلات، في الغالب، لنتسوّق
ونشربَ البيرة
لنُصابَ
بجرثومةِ الحنين إلى الأصدقاء،
ونتصل ببطاقات فرانس تيليكوم
حتى لو كنا هنا في مطار هيثرو.
صدقني، صدقني يفعلون ذلك عن عمد
وإلاّ ما الداعي للنهوض مبكراً إلى موعد
مُؤجلٍ سلفاً؟
(قالها بمرارةٍ، ومضى إلى المرحاض)
إلى الهاتف..
حتى تتأخر في أحلامها ساعتين إضافيتين
هناك في فيلادلفيا
لكنه عاد يشكو من رنين الهاتف
الذي لا ليل لهُ ولا نهار
متحدِّثاً عن الخيانةِ بحركةٍ مسرحيةٍ
(لا بد منها كما يبدو!)
بعد أن خانتهُ العبارةُ في تذكُّرِ حكمةٍ
للملِك ليـر.
مُفكراً في بيرةٍ أخرى
علّها.. (علّ الفكرة)
تخفي دمعةً كان لا بدّ أن
تسيل من مآقي عُطيل.
هكذا تساوينا في زنزانة شكسبير
مُنتَظرَينِ طائرين لا يطيران
لا إلى فيلادلفيا
ولا إلى كوبنهاغن.
مُنتظرَين، حتى تغيرت قائمةُ الإنتظار
على الشاشة:
اسطنبول، بانكوك،
بيروت،
هلسنكي، الجنّة
ومطار العودة المفتوح
إلى تفاحةٍ في حَلْقِ الجحيم.
مُنتظرَينِ طائراً واحداً في الحقيقة
طائراً..
ط ~ ا ~ ئ ~ ر ~ اً
حتى أفلس الجميعُ، واختفى طيفُ الملكة
من الجنيهات الإسترلينية
مُمرّرين (بمرارةٍ لا تخفى) بطاقات الفيزا
والماستركارد في الشق الإلكتروني لحاسبة
النادل السخية بعواطف البيرة.
طائراً طائراً
بعد خمس ساعات من الإنتظار
في الماء المنحوت كالطائر الحجريّ
في الغابة المُجاورة لوسادة ذكرياتهم
تذكروا،كالطائر الحجري، كأسلافهِ
بعد دهرٍ، بعد خمس ساعات..
أنّ تاجراً على ضفة النهر
يصطادُ الغابة ويُحصي دولاراتهم، هنا..
وهناك في البندقية.