فصول من رواية القلق الأليم - عبدالحكيم الفقيه
(1)
الأفق بحر دامس . تطفوالجبال على الجبال . كأنه غسق العصور أتى
ويعصر نفسه في كأس هذا الكون . يهمد كالغريق الفجر ، لجي المدى .
قوس يشكله اعوجاج الوقت ، تنهمر النبال على الصدور .
مدائن تنأى بأذرعها وتقتنص الندى من زهرة سكب المغني
همسه في نسغها ومدائن تأتي بأذرعها وتذبح ما لديه من الحمام
على غصون الأغنيات . مدائن ترمي مدائن صوته بالمنجنيق .
مدائن ينساب قيح جروحها زيتاً يؤجج في مروج نشيده هلع الحريق .
مدائن تقتات حنجرة الصدى تمتص من مقل القصائد ماءها
وسنا البريق .
ويستوي الديجور مبتسماً على عرش الطريق .
(2)
قدم يدب ولا يرى . قدم يحيك له الدجى " كيس " الكرى . كف يعض
بنانه . كف يغادر جسمه متذمرا . عين تعود من التخوم كليلة .
عين تعود القهقرى . رأس تطأطأه الدقائق ينحني .
روح تطارده الحرائق والبهيم على الثرى . البوصلات
الطقطقات القارعات العاديات الغاديات الناكصات إلى وراء
ورائها ٌقدماً تسير إلى الوراء ولا جديد لدى الجديد فما جرى ؟
خيل يهودج نفسه
يوم يبايع أمسه
أن الأنين من الأنين . الفاقة ارتسمت خرائطها . المدائن
والقرى تمتد اكواخاً من الآهات تبحث عن ِقرى أين القرى ؟
والقصر يتخمه اختفاء " الشنفرى " .
...
نفق كلحد موغل في ضيقه هذا المدى . نفق يقعي كالردى .
والوقت بالمقلوب
يا للهول : اشواك تخر لها النراجس والورود . دودة ثملت
بانخاب الرحيق . جيفة محروسة بين الزبرجد والعقيق .
نغمة مصلوبة وحمامة مذبوحة في مدخل الأسماع ، والأسماع
مملكة تداول عرشها بين النقيق والنعيق والنهيق .
الوقت بالمقلوب يغمس رأسه في جورب ،
يمشي وينتعل العمامة
يا لهذا الهول من هذا الأنيق !
(3)
نهر تداهمه الرمال . جداول تلقي بمعطفها الخريري حين يلبسها
الزوال . الاحتمال أتى ويلطم خده . ورمى الجمال جماله درجاً
تقود القبح صوب أريكة فيها ينام الاكتمال. الريح ترحل
والغبار نشيدها . ألقت تحيتها الغصون وأسقطت أوراقها
...
القمر الأليف من النشيج . تسلقت بقع الوجوم إلى النجوم .
الأرض أرقها الحنين إلى الربيع ، إلى أنام يهجرون دموعهم
ويسافرون إلى المروج يدججون قلوبهم بهوى يرقرقه
الكمال. الكوكب المسكون تأسره الجروح كأنه عرصات للأوجاع
مبنى بابه سقف
يغوص الحلم لؤلؤةً من الأوهام في يمٍ عميق .
(4)
طفل يشاهد زوبعات الريح ، يرمي قشة فيها ،
ويرمي مزقة فيها ،
ويرمي ضحكة فيها ،
ويختصر المسافة بين سطح الدار والأفق المسيج بالسماء
ويبصر القرطاس محمولاً برأس الريح حتى يختفي فوق البيوت
هناك خلف التل ، جنب الشمس ، جدته تخبىء في مسامعه
السعال وتمتمات ليس يفقهها . يغني جده و " البردقان " يهشم
...
المغنى ويبحث عن مظلته وينهمكان في ترتيب سطح البيت، مثل
الناس، قبل الغيم . يسكت جده المذياع في غضب ويطلق لعنةً
والطفل مشدود إلى الآفاق يستجدي الطريق يشاهد الآتين
قد يأتي أبوه من ..... وينسى ما اسمها تلك البلاد وكل
يوم وهو يشحذ اسمها من جده . يأتي بنظرته ويفحص في
يمين البيت مقبرةً ويدرك أمه في قبرها المعروف .
لو للقبر مثل البيت باب أو شبابيك فهل تأتي ويبكي ثم يبكي
ثم يبكي .
والرعود تدق باب الأفق في ضجر وضيق .
(5)
هذا بعوض القهر لا يحصى . تصوبه الجهات على الجهات . يمر
ملسوع المنى الماشي وترتعش الرؤى . حمى العذاب توسعت طقساً
تأسن ظله وارتج هيكلها الثواني والصدى يهذي وهذي
...
دمعة العنف احتجاج في فجاج الخد . هل تستل أقراص الخلاص
يد العناد وتحتسي ندماً تعيساً ؟
جل من أعطى التجلط توبة للجرح أو غطى بجلد الشمس عظم الليل
سبحان الذي لو حان يوم الفصل أقصى الهمس والألحان عن
تاج السكوت. توج الريحان سلطاناً على هذي الخبوت . جرد
البيداء من نيشانها الشتوي ، سوى في وحام الأرض ريح
البحر عكازاً لمزن الحلم في وقع شفيق .
(6)
يدب العمر . نجار يلامس كنهه اليومي . يلقن درسه المطبوع
بين اللوح والمنشار زنبيلا من الذكرى. تمد الورشة الأشياء
بالأشياء . يلقي حزنه في منضدات المكتب الرسمي . يعطي
طاولات الدرس ألغازا من الأوجاع . يطلي فوق بصقته على
القضبان . منحوت على الأبواب ظل الصرخة الأولى وظل
الرحلة الأولى ، وظل الموت مرسوم على المسمار في البرواز والدولاب
والقبقاب .
...
يأتي طاعن في السن يترك عنده مقياس نعش للحفيد . يافع
يأتي ويترك عنده مقياس نعش شاخص الأبصار . يقذف جاره
الخياط في أذنيه " كيف الحال؟ " حانوتاهما مهد وقمصان
وحانوتاهما نعش وأكفان
وسيان البداية والنهاية واتساع البحر بحر العمر
أو ضيق المضيق .
(7)
لا شأن لي في غمس أيامي السوالف بالأسى
لا شأن لي في حشو قسطي من نهاري بين أسنان المساء
لا شأن لي إن لان غصن الوقت نحوي أو قسى
لا شأن لي ما دمت عمداً أحتمي من هول هذا الحظ أبني من يقيني خندقاً
وأظل جنب الحلم في غسق الدجى متمترسا
لا شأن لي ما دمت قد أوقدت فانوسا
وهل للطل شأن لو إذا هجم الغبار مكثفاً متغطرسا ؟
هل للندى شأن إذا طمر التراب بريقه
...
ورسى الغبار على الرحيق مكوماً ومكدسا ؟
الذنب ذنب الريح فالاعصار أخلى قلبه من قلبه
وأتى يقوس قامة الأحلام
ويح الريح ، هل لا شأن لي ؟
- كلا
إذن لا طقس إلا ما أتى من وحي إصراري
ولا إعصار إلا ما أتى من صلب تياري
ولا شلال إلا ما أرتوى من ثدي أمطاري
إذن كيف الطريق إلى طقوس نشتهيها !
ويح هذي الريح ! هل طقس سيأتي بالمنى متلبسا
كتلبس الاحلام بالألق الحقيقي ؟
(8)
جزع أنا كفراشة في مسجد قروي حول فتيل فانوس
تلاصق ظلها بالابتهال
كأذرع متضرعات
...
كالعيون المفعمات بحزنها
كملامح تمحو ملامحها المخاوف من دوام القحط والطاعون والهلع البهيم
مسيج بمدامعي كجزيرة ، ومحاصر كجزيرة
ومعذب كقصيدة يصطادها القلق الأليم
تململي
وتوتري كالطائر المأسور وهو يسمع الألحان من سرب طليق