قصّة من الماضي - عبدالله البردوني
خذها فديتك يا شقيقي
ذكرى أرقّ من الرحيق
و ألذّ من نجوى الهوى
بين العشيقة و العشيق
خذها أرقّ من السنى
في خضرة الروض الوريق
واذكر تهادينا على
كوخ الطفوله و الطريق
و أنا و أنت كموثقين ؛
نحنّ في القيد الوثيق
نمشي كحيرة زورق
في غضّبة اللّج العميق
و نساجل الغربان في الوديان أصوات النعيق
و إذا ذكرت لي الطعام
؛ أكلت أنفاسي وريقي
***
أيّام كنّا نسرق الرمان
في الوادي السحيق
و نعود من خلف الطريق
و ليلنا أحنى رفيق !
و نخاف وسوسة الرياح ؛
و خضرة الطّيف الرشيق
حتّى نوافي بيتنا ...
و الأهل في أشقى مضيق
فيصيح عمّي والشراسة ؛ في محيّاه الصفيق
و هناك جدّتنا تناغينا
مناغاة الشفيق
تهوي الحياة و عمرها
أوهى من الخيط الدقيق
و أبي و أمّي حولنا
بين التنهّد و الشهيق
يتشاكيان من الطوى
شكوى الغريق إلى الغريق
شكواهما صمت كما
يشكو الذّبال من الحريق
و يحدّقان إلى السكون ؛ ورعشة الكوخ العتيق
و اللّيل ينصت للضفادع ؛ و هي تهذي بالنقيق
و الشهب تلمع كالكؤوس ؛ على شفاه من عميق
***
وجوارنا قوم لهم
إشراقة العيش الطليق
من كلّ غرّ يمز
بين الأغاني و النهيق
و تظنّه رجلا و خلف ثيابه وحش حقيقي
و تراه يزعم شخصـ
ين جوهر المسك الفتيق
يتحادثون عن النقود ؛
حديث تجار الرقيق
يتخيّرون ملابسا
تصبي و تغري بالبريق
حتّى تراهم صورة
للزور و الجهل الأنيق
و نماذجا برّاقه
لأناقة الخزي العريق
***
يمشون في نسيج الحرير ؛ فهم رجال من حرير
و كأنّهم مهن خلق نسّاج ؛ و خيّاط قدير
لولا خدّاع ثيابهم
كسدوا بأسواق الحمير
فقراء من خلق الرجال ؛
و يسخرون من الفقير
و يسائلون مع الرجال ؛
عن المشاكل و المصير
و مصيرهم بيت البغيذ ؛
و بيت خمّار شهير
و هناك بنت غضّيه
أحلى من الورد المطير
ترنو و في نظراتها
لغة الدعارة و الفجور
و حدجيثها كالجدول
السلسال فضّي الخرير
حسناء تطرح حسنها
للمترفين ؛ و للأجير
فجمالها مثل الطبيعة ؛
للنبيل .... و للحقير
في مشيها رقص الحسان ؛
و خفّة الطفل الغرير
و يكاد يعشق بعضها
بعضا من الحسن المثير
أودى أبوها و هو في
إشراقه العمر القصير
كان امرءا يجد الضعيف ؛ يمينه أقوى نصير
يحنو و ينثر ... ماله
للطفل و الشيخ الكبير
يرعى الجميع فكلّـ
لب سماويّ الضمير
جادت يداه بما لديه ؛ و جاد بالنفس الأخير
فذوت صبيّته الجميلة ؛ كالزنابق في الفهجير
و بكت إلى أختي كما
يبكي الأسير إلى الأسير
و مشت على شوك المآسي
الحمر و اليتم المرير
و مضت تدوس الشوك ؛ و الرمضا على القلب الكسير
و الحزن في قسماتها
كالشك في قلب الغيور
تعرى فتكسوها الطبيعة
حلّة الحسن النظير
صبغت ملامحها الطبيعة
من سنا البدر المنير
من وقدة الصيف البهيج
و هدأة اللّيل الضرير
من خفّة الشجر الصبور ؛ على رياح الزمهرير
و من الأشعّة و الشذى
و صراحة الماء النمير
فتعانقت فيها المباهج ؛
كالأشعّة ... و العبير
فجمالها قبل الحنين ؛ و صدرها أحنى سرير !
***
قل لي . أتذكر يا أخي
من تلك جارتنا الشهيّة ؟
هي فوق فلسفة التراب
و غلظة الأرض الدنيّة
رحمت مجانين الغواية
فهي مشفقة غويّة
بنت الطبيعة فهي ظلّ الحبّ ؛ و الدنيا الشّذيّة
كانت ربيع الأمنيات ؛
و أغنيات الشاعريّة
فانصت إليّ فلم تزل
من قصّة الماضي بقيّة
جاءت بها الذكرى ؛ و ما الذكرى ؟ خلود الآدميّة
حدّق ترى ماضيك فيها ،
فهي صورته الجليّة
أوّاه ! ما أشقى ذكيّ القلب ؛ في الأرض الغبيّه !
***
ما كان أذكى " مرشدا "
و أبرّ طلعته الزكيّه !
كان ابتسامات الحزين ؛
و فرحة النفس الشجيّة
عيناه من شعل الرشاد ،
و كلّه من عبقريّة
إن لم يكن في الأنبياء
فروحه المثلى نبيّة
قتلته في الوادي اللّصوص ؛ فغاب كالشمس البهيّة
كان ابن عمّي يزدريه ؛
فلا يضيق من الزريّه
و من ابن عمّي ؟ جاهل
فظّ كليل الجاهليّة
يرنو إلينا ... مثلما
يرنو العقور إلى الضحيّة
نعرى ؛ و يسبح في النقود ؛
و في الثياب القيصريّة
و نذوب من حرق الظماء
و عنده الكأس الرويّه
و الكأس تبسم في يديه ؛ كابتسامات الصبيّة
و الكرم في بستانه
يلد العناقيد الجنيّه
حتّى تزوّج أربعا
أشقته واحدة شقيّة
فكأنّ ثروته دخان
ضاع في غسق العشيّة
فهوى إلينا و التقينا ؛
كالأسارى في البليّة
***
و أتى الخريف و كفّه
تومي بأشداق المنيّة
و توقع الحيّ الفنا
فتغيّرت صور القضيّة
و تحرّك الفلك الدؤوب
فأقبلت دنيا رخيّة
و تضوّع الوادي بانسام الفراديس النديّة
قل لي : شقيقي هل ذكر
ت عهود ماضينا القصيّة
خذها فديتك قصّة
دفاته النجوى سخيّة
و إلى التلاقي يا أخي
في قصّة أخرى طريّة
و الآن أختم الكتا
ب ختامه أزكى تحيّة !