بين ليل و فجر - عبدالله البردوني

في هجعة اللّيل المخيف الشاتي
و اجوذ يحلم بالصباح الآتي

و الريح كالمحموم تهذي و الدجى
في الأفق أشباح من الإنصات

و الشهب أحلام معلّقة على
أهداب تمثال من الظلمات

و الطيف يخبط في السكينة مثلما
تتخبّط الأوهام في الشبهات

والظلمة الخرسا تلعثم بالرؤى
كتلعثم المخنوق بالكلمات

***

في ذلك اللّيل المخيف مضى فتى
قلق الثياب مروّع الخطوات

يمشي و ينظر خلفه و أمامه
نظر الجبان إلى المغير العاتي

و يرى الحتوف إذا تلفّت أو رنا
و يحسّ أصداء بلا أصوات

و يعود بسأل نفسه ما خيفتي ؟
ماذا أحسّ ؟ و أين أين ثباتي ؟

ماذا يخوّفني أنا رجل السرى ؟
و أنا رفيق اللّيل و الفلوات

هل ليلتي غير اللّيالي ؟ أم أنا
غيري … أكاد الآن أنكر ذاتي

أين الصباح و أين منّي قريتي ؟
و الرعب قدّماي و في لفتاتي

***

و هنا تراءت للمروّع عصبة
كالذعر شيطانيّة اللّمحات

شعث كأهل إلاّ أنّ في
نظراتهم همجيّة الشهوات

و تقلّبت مقل العصابة في الفتى
و كأنّها تشويه بالنظرات

و تخيّلت " كيس النقود " فأبرقت
رغباتها في الأعين الشرهات

و تململت فيها الشراسة مثلما
يتململ الزلزال في الهضاب

و التاع فيها الشرّ فاهالت على
ذاك الفتى بالضرب و الطّعنات

فاستلّ خنجره و كسّر وحده
و حشيّة الوثبات بالوثبات

و تلفّتت تلك العصابة حولها
فرأت بعين الوهم ظلّ سراه

***

و هناك لاذت بالفرار و أدبرت
ملعونه الروحات و الغدوات

و عدت يصادم بعضها بعضا كما
تتصادم الآلات بالآلات

و جثا الفتى بين الجراح كمدنف
يستنجد العوّاد بالزفرات

و تلكأت عند التوجّع روحه
بين الممات و بين نصف حياة

وامتدّ في حضن الطريق وداؤه
حيّ وصفرته من الأموات

و تداعت الأوجاع فيه و التظت
فيه الجراح الحمر كالجمرات

و إذا تهيّأ للنهوض تثاءبت
فيه الجراح تثاؤب الحيّات

و على يمين الدرب كوخ تلتقي
في صدره النكبات بالنكبات

بين القصور و بينه ميل و ما
أدنى المكان و أبعد الرحمات !

يشكو إلى جيرانه فيصمّهم
عنه ضجيج القصف و اللّذّات

كوخ إذا خطرت به ريح الدجى
أومى إلى السكان بالرعشات

" سنوات يوسف " عمره وجداره
أبدا تنوء بأعجف السنوات

فيه العجوز و بنتها و غلامها
يتذكّرون موارد الأقوات

فالحقل جدب ظاميء و سماؤه
صحو تلوح كصفحة المرآة

و الأغنياء ، و هل ترقّ قلوبهم ؟
لا ، إنّها أقسى من الصخرات

و تغلغلوا في الصمت فانتبهوا على
شبح ينادي الصمت بالأنّات

فإذا فتى قلق الملامح يختفي
تحت الجراح الحمر و الخفقات

فمشى ثلاثتهم إليه وانثنوا
بالضّيف بين الدمع و الآهات

وروى لهم خبر العصابة أنّها
سدّت عليه الدرب بالهجمات

و تهيّجت فيه الجراح فصدّها
و تستّرت باللّيل كالحشرات

فدنت فتاة الكوخ تمسح وجهه
و تبلسم الأجراح بالدعوات

و تبلّ من دمه يديها إنّها
تشمّ فيه أعبق النفحات

و ترى به ما ليس تدري هل ترة
سرّ القضا ؟ أم آية الآيات

فإذا الجراح تنام فيه و يشتفي
و يردّ عمرا كان وشك فوات

وإزاءه ابنت الجميلة كلّها
روح سماويّ و طهر صلاة

يتجاوب الإغراء في كلماتها
كتجاوب الأوتار بالنغمات

أغفى الجريح على السكون و أغمضت
أجفان من حوليه كفّ سبات

و الكوخ في حرق الأسى مترقّب
بشرى ترفّ عليه كالزهرات

***

و اللّيل تمثال سجين يرتجي
فكّ القيود على يد النحّات

فبدا احمرار في الظلام كأنّه
لعنات حقد في وجوه طغاة

و تسلّل السحر البليل على الربى
كالحلم بين الصحو و الغفوات

يندى و ينثر في البقاع أريجه
و يرشّ درب الفجر بالنّسمات

وصيت على الجبل الشموخ أشعّة
مسحورة كطفولة القبلات

فكأنّما الجبل المعمّم بالسنى
ملك يهزّ الفجر كالرايات

رفع الجبين إلى العلا فتقبّلت
في رأسه الأضواء كالموجات

و تسلّق الأفق البعيد شموخه
فترى عمامته من الهالات

و تلألأت فوق السفوح مباسم
ورديّة الأنفاس و البسمات

وانصبّ تيّار الشروق كأنّه
شعل النبوّة في أكفّ هداه

و غزا الدروب فأجفلت قطّاعها
ووجوههم تحمرّ بالصفعات

و تصايحت تلك العصابة ما أرى ؟
هذي الجهات المشرقات عداتي

أين المفرّ ؟ و أين أطلب مهربا ؟
و النور يسطع من جميع جهاتي

كيف القرار ؟ و ليس لي كهف و لا
درب فيا لي ! ! يا لسوء مماتي !

و أفاق أهل الكوخ حين ثقوبه
تومي إلى الأبصار بالومضات

فدنا ثلاثتهم يرون جريحهم
فإذا الفتى في سكرة الفرحات

نفض النعاس وشدّ فيه جراحه
و استقبل الدنيا بعزم أباه

ورمى إلى كفّ الغلام و أمّه
بعض النقود و دعوة البركات

و صبا إلى كفّ الفتاة و قال : يا
" نجوى " خذي نخب الزفاف و هاتي

و طوى الجراح وهبّ يقتاد السنى
و يبشر الأكواخ بالخيرات

و يقود تاريخا و ينبت خطوة
فجرا ينير مسالك القادات

***

فضح الصباح المجرمين فأصبحوا
أخبار جرم في فم اللّعنات

و تعالت الأكواخ تنظر أهلها
يضعون " غار النصر " في الهامات "

لمس الربيع قلوبهم و حقولهم
فاخضوضرت بالبشر و الثمرات

و الجوّ يلقي النور في الدنيا : كما
تلقي السيول مناكب الربوات

و الزهر في وهن الشباب مفتّح
فوق الغصون كأعين الفتيات

و الأفق يورق بالأشعّة و الندى
و الأرض تمرح في حليّ نبات

***

و هنا انتهى دور الجرائم و ابتدى
دور وريف الظلّ كالجنّات

فتجمّع الإخوان بعد تفرّق
وانضمّ شمل الأهل بعد شتات

صرعت أباطيل الدجنّة يقظة
أقوى من الإرهاب و القوّات

و الدجل يذهب كالجفاء و لم تدم
إلاّ الحقيقة فوق كلّ عتاة

***

إنّ الحياة مآتم تفضي إلى
عرس و أفراح إلى حسرات

لكنّها بخريفها و شتائها
و بصيفها .. حكم ودرس عظات

فاختر لسير العمر أيّة غاية
إنّ الحقيقة غاية الغايات .