المنمنمة الخامسة - صدقي شعباني

1-
سنا قطرة لم تجد في السّماء ملاذا،
فأحجمت قبل أن
تفتح القلب... كانت نجومي
تهيم وتصنع من قلقي
الدّائريّ كرات ثلج في
مدن لا تطيق السّحاب؛
كانت اللّعبة تعجبني أحيانا،
ومن قطرة لم تجد في السّماء
ملاذا، ومن نجماتي الجميلات،
أعتق عشرين عبدا سبيّا،
وأصنع من قلقي الدّائريّ
عشرين قصرا،
لتلك الأميرات يعجبهنّ
العبيد، فينصبن عشرين
تختا، ويبدأ حفل البكاء
الغريب... سيصحبنني في
مماتي، ويبكينني بعض حين،
شريدا تعدّد في معضلات
الأمور... تعدّد في كلّ شيء
بلا قيمة؛ سوف تأتي الفصول
تباعا، ومن حرقة في الفصول
يراوحني الشّوق بين دندنة
الاكتئاب وشيء شبيه بطعم
العذاب... ألفت كثيرا بنات
حروفي... بناتي اللّواتي تخفّين
منّي إذا ما تمنّعت في الحزن،
أرهقتهنّ، وكنّ نشيدي فغيّرن
ظنّي في السّفسطات، في
المثنويّة... في الوحدة، في
الشّكل... في غمرات التّواجد،
والاتّحاد... ومازت أبحث عن
صورتي الحائره، وشكلي المضمّخ
بالماء... عن آية صنعت جبلا،
وعن كلّ شيء تبعثر حولي، فأوصدت
باب التّشرّد، لأبحث في حيرتي...
في متاهي، وفي رؤيتي القاصره،
عن حروف أجمّع أطرافها، كي
أوازن بين انشداهي لرؤية ذاك
الإله الجديد...
2-
سنا قطرة لم تجد في سمائي
الرّحيبة أدمعها، فظلّت
تحاصر شيئين من غربتي: ركوة
وعصا... وكنت أهرّب عن قطرتي
سحبي، خطوتي والطّريق المؤدّي
إلى النّاصره... آه، يا قطرتي
الحائره! لو يتأتّى البكاء، فنبكي
معا، وننسى السّماء قليلا،
وننسى الأماكن والمدن الضّائعه؛
ونحيا كظلّين، في كلّ شيء نلوّن
أحزاننا... في كلّ رسم، نحاور
أوطاننا، نستلذّ النّشيد الّذي
كتبته الدّماء... رأيت المنافي،
شتاتا تبعثر في رئة الحزن، أحجمت
خلف المدى... والصّدى! جبال
الجنوب، وتلك القرى: من يقول
بأنّ الزّمان لم يتوقّف؟ وأنّ
القوافل، من ألف عام شريد،
تحاول أن تملأ البوصلات تباعا
لتعرف أشهرها القمريّة، تعرف
أوصاف جدّ تشرّد في التّيه مثل
الحمام الغريب. [أنا مثنويّ الرّوئ،
مثنويّ الغرام، مثنويّ التّعثّر
خلف الحروف العصيّة... أحاديّتي
لا تفيد؛ ونبضي المعفّر بالصّمت،
أرديتي الملصقات على القلب، في
كلّ عام جديد، وموتي المعلّق في
خانتين من السّفر ا لمترقّب،
أسئلتي... كلّ شيء تقمّصت
فيه، يراني أعيد المسافات؛
نفس المسافات من ألف عام،
ومن ألف وجه فقيد!!] أنا...
يا مرايا السّماء، حبيب السّنا
والدّموع الّتي أحرقت رئتي؛
حبيب الشّوارع يلقين ظلاّ فأنسى
التّوحّد... أنسى المحارات...
أنسى الشّراع الممزّق يحتلّ
أبواب قلبي جميعا، ويوصدها
ساعة للنّشيد... ستأتي الحمائم
من دمعتين، هناك... هناك،
شبيهات ذكرى من التّين
والياسمين... شبيهات
أشيائي الفاتنات جميعا: قناديلي
المشرعات اللّواتي أضأن بحاري...
مناديلي البيض في دمعهنّ المسافر
بين الظّلال وبين الشّواطئ... حبيباتي
الهاربات... وقلبي المصفّد بالحزن
والصّمت... تأتي السّفائن من دون
ربّانهنّ! "قداموس": يا سيّد البحر! يا
من زرعت المحيطات شوقا! أراك
استعدت المجاذيف، في مقلتيك تجوب
القلوع سماء المدائن، وفي راحيتك
رأيت الخليج يودّع أسوار "صور"...
سترحل! أين الدّموع؟... أين المناديل،
يا سيّد البحر؟ أين البخور المعطّر؟
أين المذابح؟ والأغنيات؟... سترحل؛
دع ساعة للبكاء المسهّد – أعطيك
فيها انتمائي إليك... أعطيك عهدي،
وأشياء تبقى، لأنّ الرّحيل يفكّك ما لا
يفكّك... لأنّ الرّحيل تعلّمت منه الحصار
المروّع... تعلّمت منه العزاء لموت
فقيد!!... سلاما إذن، فترجّل أعانق
خطاك – أقبّل يدين تدلّهتا من سفور
البحار الجميلة؛ يا سيّدي، كم حلمت بأن
تفتح القلب يوما، وتأتي خفيفا
فتمتدّ بين الشّغاف لتمنح نجم
الفؤاد ترانيم أسفارك، تعطي
المحار لشمع تهدّل في شرفة
البوح؛ يا سيّدي، كم بكيت عليّ،
وقد كنت شوقي المرنّق بالتّوت،
كنت المساء المفاجئ – بيتا تفاجأ
بالشّعر يلهو على وتر في جراح القصيدة؛
يا سيّدي، رحلة الموت لا تستردّ الشّواطئ،
لا تستعيد التئامي إليك، فاقبل يدي
زورقا، وافتح القلب ثانية، ثمّ جذّف
بعيدا... بعيدا، بلا ساريه!!
*
العين في: 28 تشرين الأوّل 2007