ندمي وحيد في العراء - طالب همّاش

تتكاثرُ الآهاتُ مثل الغيم‏
في أحزانِ مريمَ‏
والدموعُ تفيضُ كالأمطارِ‏
من مقلِ الغيومِ الباكيهْ.‏
تتكاثرُ الآهاتُ كلَّ عشيةٍ‏
في قلبها الباكي‏
وتنمو مثلما تنمو شتولُ التبغِ‏
في كتفِ الحقولِ القاحلهْ.‏
لكأنها جبلٌ من الأحزانِ‏
يندبُ في فراغِ الأرخبيلِ‏
صقوره الصرعى‏
ويهدمُ نفسهُ فوق القبور النائيهْ.‏
الريحُ تجثو قرب ركبتها‏
وتصرخُ مريماهُ!!‏
والليلُ يهرمُ في ضفائرها‏
فيشتدَّ المتاهْ.‏
لا عينُ إلاَّ كي تهلَّ الدمعَ‏
لا امرأةٌ بغيرِ سوادها‏
روحٌ على ريحٍ‏
ترجّعُ صوتها المجروحَ أوّاهٌ وآهْ!‏
ربطتْ جدائلها بغصنِ الموتِ‏
وارتحلتْ بحلّتها الحزينةِ‏
كي تزوّجَ قلبها للغيمِ‏
ناداها منادٍ:‏
ردّي عليك البابَ يا أمةَ البكاءْ!‏
ستجيئكِ الأيامُ ناحبةً‏
لتلبسَ ثوبكِ المسودَّ‏
في حزنِ الشهورِ..‏
وتطلعُ من عباءةِ حزنكِ السوداءِ‏
أجراسُ المساءْ!‏
فترعرعوا مثلَ الرياحِ على جدائلِ شعرها‏
المسوّد‏
واستسقوا الحمائمَ من يديها في الصباح،‏
وفتّحوا كبراعمِ الأزهارِ‏
بين تمائمِ روحها الجذلى!‏
إذا عقدت عناقيد العنب!‏
وتأملوا ذاكَ الضياءَ‏
يشفُّ فوق بحيرةٍ مرفوعةٍ‏
عندَ الغروبِ على السنابلِ والذهبْ!‏
هذي أياديها مشرّعةٌ على النسيانِ‏
تذروها الرياحُ‏
كأنها قشٌّ قديمٌ أو حطبْ.‏
تتكاثرُ الآهاتُ.‏
لا قلبي بلا حزنٍ.‏
لأجعلَ مَن خريفِ العمرِ صورتها على المرآةِ،‏
أو حزني انتهى..‏
لأشيرَ نحو فؤادها الملكومِ بالدمعاتِ‏
أو أبكي استفاقةَ روحها بعد الغيابْ!‏
من قبلِ مريمَ لم تكنْ هذي البسيطةُ‏
غير حزنٍ أسود العينينِ‏
يبحثُ عن ترابْ.‏
كانتْ ترى في الغيمِ حزناً مبهماً‏
فتميلُ نحو القمحِ راحتها الكفيفةُ‏
كي تفتّشَ عن دموعٍ مطفأهْ!‏
لا تسألي الريحَ الجريحةَ‏
بين أضرحةِ الكآبةِ يا امرأهْ!‏
أنا ما رأيتُ سوى فتاةٍ ترضعُ الأغصانَ‏
كالعصفورِ من ظمأ،‏
وتجرحُ بالأظافرِ نهدها المبيضَّ‏
من شوقٍ‏
وقلبي ما رأى.‏
وتصيح مُريمُ بين أحجارِ الصدى:‏
من أينَ يأتي كلَّ هذا الثكل‏
كي أبقى مسمرةً على الأجراسِ؟‏
يا للحزنِ!!‏
كلُّ الحزنِ للريحِ التي تركتْ‏
حدادي للغيومِ،‏
وخلّفتْ ندميِ وحيداً في العراءِ‏
يعاركُ الذؤبانَ بالنايِ الكفيفْ!‏
لكنَّ صوتاً صافياً كالماءِ‏
يهمسُ من شفاهِ الغيمِ في أذن المدى!‏
من قبل مريمَ كانتِ الأرضُ امرأهْ‏
بثيابها البيضاءِ ماشية‏
على دربِ (الحدا).‏
فتصيحُ أصواتُ المراثي المرجأهْ:‏
لا تشتهي بفؤادكَ الواهي طيورَ جمالها!‏
هي مريمُ روحها العذراءِ‏
كانتْ في طلوعِ الشمسِ‏
ترعى طائر الغفرانِ‏
في أطراف ساقيةٍ،‏
وتكنسُ عن دروبِ الصيفِ أوراقَ الخريفْ‏
تبكي البلابلُ فوق راحتها الصغيرةِ‏
والسنابلُ تستردُّ الحزنَ‏
من شَعْرِ الحفيفْ.‏
وهي التي رضعتْ حليبَ الثكلِ‏
من نهدِ الكآباتِ الكفيفْ!‏
وهي انشغالُ صغيرةٍ بالقمحِ‏
في كنفِ الطفولةِ..‏
كلُّ ما يمضي إلى النسيانِ بعد العشقِ‏
كي يغدو خيالاً من شفيفْ.‏
لم ينتبهْ قمرُ الغيابِ البكرُ.‏
للشمسِ التي راحتْ تلوّحُ وجها..‏
لم تنتبه تلك النجومُ‏
إلى نداءِ عيونها الشفّافِ..‏
تكبرُ مثلَ وَردِِ الليلِ في الأحواضِ‏
غصّتها..‏
ويهديها الحمامُ دموعَ حنطتهِ‏
الشجيّةِ‏
كلما كبرتْ مع الأيام أحزانُ الهديلْ!‏
ما زلتُ أسمعها تباكي النخلَ‏
ساعاتِ السكينةِ‏
بينما تبكي على أعتابها‏
في الليل أقمارُ الرحيلْ!‏
ما زالتُ أسمعُ نايها المعتلَّ في الأيامِ‏
يعلو فوق أشجارِ الحياةِ‏
مضرّجاً بنحيبه..‏
وكطائرِ الأشواكِ يفردُ جانحيهِ‏
على الخليقةِ‏
ثم يسقطُ في عشيّاتِ الجليلْ‏