جاري يا عازف الكمان - طالب همّاش

من ظلمةِ داري .
من ظلّي المحفورِ على جدرانِ الحبر العاري .
حيت تلوحُ الأيام محطّمةً
والورقُ الساقطُ من أشجار خريفِ العمر
يغطّيني كالأكفانْ !
وتصاويرُ أحبّائي
تتساقط كقصاصاتٍ سوداء َعلى أصص ِالورد
وفوق كراسي النسيانْ ..
من بيتي المرفوعِ على جدران ِالليل بلا جدرانْ ..
أتطلّعُ نحو الشرفات العليا
فأرى جاري العازف
ينظر نحو بحيراتِ المغربِ كالظمآنْ ..
يتأمّلُ في الأفقِ المُرسل ِ
سربَ عصافيرِ الجنّةِ ،
والبجعَ المتناثر تحت شراعِ الغيم
شرائطَ للأحزانْ ..
يتأملُ في الليلِ مجاهيلَ الليل
ويعزفُ أنغاماً مسكرةً تتطهّر فيها كلمات الحبّ
كما يتطهّرُ قلب ُالغيمة ِفي قزح ِالعذراءِ
وتصفو في كفّ العاشق ِحبّاتُ الرمانْ !
فأمدّ يديّ إليهْ
وأناديهْ :
أحزانكَ في الليل ِكمنجاتٌ جوعى
وأغانيكَ العذبةُ تسقطُ كالدمعاتِ على عينيّْ
فإليّ .. إليّْ !
يا جارَ الليل السهرانْ !
إعزف ْبكمانكَ في الأفقِ الأزرق ِ
كي أتأمّلَ حزنَكَ في ضوءِ القمرِ السكرانْ !
ما أجملَ أن تتقطّر َقرب دموعكَ
في أوقاتِ المحنة ِدمعاتُ أخيكْ !
اعزف ما يجعل ُقلبَ الأمل الواقفِ في بابِ الدمعةِ
حرفَ نداءٍ يرثيك ْ!
اعزف ما يجعلُ ضوء َالقمرِ الآفلِ
ينحلُّ على صدر ِالعاشقِ
كالغصّاتْ !
اعزفْ كي تتطهّرَ نفسي السكرى
في لحظات ِالصمت ِالصوفيّ
وتنحلَّ سكينةُ حزني الأبديِّ
إلى قطرات ْ!
اعزف ما يجعلُ روحي
تتكهرب ُبالأنوارِ الورديَّةِ
فوق غصون ِالرؤيا كالكروانْ ..
فأنا قدّيس ُ العمر المتأمّل ُعند طلوع ِالفجر
طيورَ صلاتكَ سابحة ًفوق بحيراتِ البلّورْ .
إعزفْ كي تتقطّر َأوجاعُ الشاعرِ
من مصباحِ الليل الدامعِ
في كأس ِالصمتِ المكسور ْ !
نوراً مجروحاً يتقطّرُ من جمرةِ نورْ !
* * *
ما أجملَ أن يصبحَ قلبي طيرَ سنونو
يشرب ُدمعات ِمراثيكْ !
ما أجملَ أن تبلغ َزقزقةُ العصفور بصدري
أجراسَ أغانيكْ !
ما أجملَ هذا العزف َالنازف
فوق عذابات ِالإنسان ْ!!
ما أجملَ أن يتطلّعَ نحوك
في أعمقِ ساعات ِالليل غريب ٌحيران ْ!
ما أجملَ هذا الكون العالي
موسيقى سارحةٌ
وفضاءٌ صافٍ
تتصوّفُ في قدّاس ِسكينتهِ البيضاء
نفوس ُالرهبانْ !
ما أجمله .. كوناً يتلألأ أزرقَ
تحت قناديلِ الرحمان ْ!!
فارفعْ صوتكَ في بُحْرَانِ الوحشة ..
عذّبني بنحيبكَ
واقتلني بأنينكَ
أنزلني وارفعني
كسراج ِنبيذ ٍأعمى
لأحدّقَ كالذاهل في رؤياكْ !
فأراكْ ..
مكسوراً وعطوفاً ونقيَّ القلب
فأسقي نفسي الظمآى من ينبوعِ أساكْ ..
حلّق بجناحيكَ لتحملَ آلامي كالطير
لأبصرَ أزهارَ الدنيا في عينيك َ..
وتبصر في عينيّ سماواتِ الخسران ْ !
يا جارَ الليل السهران ْ!
يا بوذا الواقفَ فوق سكونِ العالم
والشاردَ كالراعي بين قداديس ِالسلوانْ !
اعزف أغنيةً عن حزنِ أخيكَ المتعبّد
عن غربته بين سراةِ الناس ْ !
.. أغنية تتلامسُ موسقاها العذبةُ كالأجراس ْ ..
فكلانا تتساقطُ أوراقُ كآبته
من بين يديهِ ، وتبلله الحسراتْ
وكلانا يغمضُ عينيهِ على طيف صديق ٍغابَ
ويبكي منفرداً في القداسْ !
وكلانا لا ينزحُ من بئرِ لياليه السوداءِ
سوى الدمعاتْ ..
فاعزف ما يجعل ُأوتارَ كمانك
تتألّم ُكالمطرِ المرِّ على صدر ِالأمل المهزومِ
وكالريح ِعلى طرقات الحادينْ !
فأنا في هذي الوحدةِ
نحَّاتُ تماثيل الغربة من أحجارِ الدمع
وصدّيقُ البكّائينْ !
..أنحت ُوجهَ الوحشةِ
أنقلُ يأسَ الروح إلى الصلصالْ ..
أنحتُ في الصمتِ المبهم شمس َزوالْ ..
أنحتُ أوجاعَ العازفِ إذ تترقرقُ في سكراتِ الموّالْ ..
أنحت ُوجهَ فتاة ٍأ جمل من قوس هلالْ ..
أنحتُ أصناماً غابرة الحزنِ لأسلافي المفقودينْ ..
أسقي أزهارَ النرجس من ماء الغصّاتِ
فترشحُ عطرَ الزهر حزين ْ .
لا امرأة لتردّ ضفائرها الذهبيةَ فوق جبيني
فأقول لها :
كأسُ النهدِ صغيرٌ في الأبيضِ يا زهراءُ فغطّيني !
فالليلُ حزينُ المطلعِ
والظلمةُ أصفى من عين ِالسكرانْ !
* * *
يا بوذا الليل المتأملِ
هل أبصرتَ جمالَ المصلوب ِيضمّ عذابات ِ
الدنيا بين ذراعيهِ
ويعلو فوق غروب ِالشمس الزائل ِكالربّانْ ؟
هل أبصرتَ شقيق َمراثيك
يمارسُ حزناً روحانياً في البيت
ويرفع ُنحو سماواتِ الفجرِ نحيباً منفردًا
ويموتُ على الصلبانْ ؟
* * *
لكن حين يشيعُ الليلُ وتنطفىء الحجراتْ ..
وتصيرُ الوحشةُ شبحاً مهجور اَ
يتجوّلُ كالظلِّ على الطرقاتْ !
أتطلّع ُنحو الشرفات العليا فأراه ..
العازف إيّاهْ
يطبقُ كفّيهِ على عينيهِ ويبكى كالكهّانْ
والصمتُ يسيلُ كدمعةِ حزنٍ في لحن كمانْ .