فردوس الجسد الجميل - طالب همّاش

كفٌّ بمفردها تحدّقُ في غروبِ الشمسِ‏
خافضةً على الليمونِ جنحَ عيونها المكسورَ،‏
والتفاحُ يسقطُ ذابلاً عند الأصيلْ!‏
* * *‏
عبرتْ سماءَ الحزنِ‏
سبعُ (حمائمٍ بيضاءَ)‏
فانحنتِ الفرسْ‏
لتشمَّ حزنَ الأرضِ فانفجرَ الصهيلْ.‏
* * *‏
كانتْ مرايا الوقت فاختةً‏
كأقمارِ الكآبةِ‏
والأذانُ العذبُ‏
يغرقُ في ضبابِ الأرخبيلْ!‏
* * *‏
وعلى هضابِ الفجرِ تسرحُ شهوةٌ‏
كالدمعِ جارحة العويل.‏
* * *‏
فتفقّدتْ أعضاءها الأرضُ الجريحةُ‏
في صلاةِ الصبحِ..‏
ألقتْ نظرةً خرساءَ‏
نحو أمومةِ الزيتونِ..‏
غاصتْ في حدادٍ غامضٍ‏
ثم استفاقتْ مثلَ أرملةٍ‏
لترفعَ قبضةً من مستحيلْ.‏
* * *‏
لا طفلَ كي يصغي إلى أثدائها الملأى‏
بطعم اللوزِ‏
لا رجلاً ليحصدَ شهوةَ الأقماحِ‏
عن بستانها الذاوي‏
ولا طيراً ليصغي لارتعاشات الهديلْ.‏
* * *‏
كُلٌّ يردّدُ اسمه الموروث‏
منتحراً على أجراسها الجوعى‏
شهيداً أو قتيلْ.‏
* * *‏
هيَ ذي العروسةُ في زفافِ الصبحِ‏
تلبسُ طرحةً بيضاءَ‏
فيما ترقصُ الأطيارُ حول ذراعها‏
بتمائمِ التغريدِ‏
والأولادُ جاؤوا حاملينَ حمامها‏
ليطيّروهُ، ويرسموا‏
بالحبر دائرةَ العروسْ.‏
* * *‏
هي ذي العروسُ‏
يزفّها الأطفالُ للقمرِ‏
الأشفِّ على كنائسها الصغيرةِ‏
كالكؤوسْ‏
غنّوا لها في الصبح:‏
آ و يها زرعنا شتلةَ الرمانِ،‏
آ و يها فزهّرَ قلبُها الحزنان،‏
آ و يها وراحَ الدمعُ يسقيها‏
وتذرفهُ الشموسْ.‏
* * *‏
هي ذي العروسُ ترتّلُ الأشعارَ‏
والزمارُ يزرعُ زغرداتِ الفجرِ‏
في الأريافِ‏
أيّ حمامةٍ‏
ستميلُ نحو الدمع في هذا الصباح،‏
وأيّ أغنيةٍ‏
ستهزجُ في سماء العرسِ آ و يها‏
ويا أسفيْ عليكْ؟!‏
* * *‏
رفعتْ غراسُ اللوزِ أذرعها المريضةُ‏
كي تُسَاقطَ زهرها الموؤودَ‏
في كفِّ الندامةِ‏
ثم صاحتْ يا محمدْ!‏
* * *‏
وتمايلتْ صفصافةٌ في الليلِ‏
باكيةً على أطلالِ معبْد!‏
* * *‏
هي ذي العروسُ‏
تشرّعُ للخريفِ (جدائلاً) سوداءَ‏
كي ترثَ الكهولةَ من سواد الغيمِ‏
راميةً على الأحجارِ‏
شكلَ حدادها المشؤومَ،‏
صائحةً على طول المدى:‏
أنا زهرةُ الأيتامِ‏
ترفعها على كفِّ الرمالِ‏
رياحُ (أيلولٍ) مشرّدْ.‏
* * *‏
نَمْ يا محمدْ!‏
* * *‏
وأنا التي شهدتْ ولادة حزنها‏
من مدمعِ الزيتونِ‏
واحتطبتْ ملامحها بفأسِ الحزنِ‏
من شجرِ المناحاتِ الجريحْ!‏
* * *‏
وأنا التي فتحتْ ذراعيها‏
لتحتضنَ المراثي‏
مثلما فعلَ المسيحْ..‏
كي يصلبوني.‏
* * *‏
وأنا التي نظرَ السوادُ إلى دمي،‏
فأصابَهُ نُدميْ..‏
وأرضعتُ المراثي من شجوني!‏
* * *‏
أنا أوّلُ امرأةٍ رآها النيلُ‏
تجمعُ من حقولِ القطنِ‏
أزهاراً لحزنِ الروحِ،‏
كي تبكي على قمرِ السجونِ!‏
* * *‏
من أينَ يطلعُ ذلكَ القمر الحزين.‏
لكي يراهُ الآخرونَ‏
ولا يروني؟‏
* * *‏
أنا دمعةُ الزيتونِ تقطرها‏
بمعموديّةِ الأحزانِ‏
ريحٌ مرّةٌ‏
والليلُ يجهشُ (أسوداً)‏
والحزنُ أبعدْ!‏
نَمْ يا محمدْ!‏
لأصيرَ بَعدكَ زهرةً للمريماتِ السودِ،‏
أرملةَ المباكي الأمّ‏
في هذي البلادْ!،‏
وأدقَّ أجراس الحدادِ‏
على غيابكَ للأبدْ.‏
يا زهرةَ التفاحِ في وَحَمِ الجسدْ‍‏
* * *‏
لكنني ماذا أقولُ لشتلةِ الريحانِ‏
إن جاءتْ تفتّشُ عن يديكَ؟‏
وكيفَ أقنعها بأنكَ نائمٌ‏
فوقَ السوادْ؟‏
* * *‏
ماذا أقول لُبحّةِ الناي المهجّرِ‏
وهو يغرقُ في المراثي،‏
للكماناتِ التي شنقتْ أغانيها‏
على وترِ الحدادْ؟‏
* * *‏
ماذا أقولُ لشجرة الزيتونِ‏
إن ذرفتْ على قبر البلادْ:‏
زيتونها المخضرّ كالدمعاتِ‏
وانتظرتْ لتقطعَ جذعها من أصلهِ‏
في الصمتِ حشرجةُ الجرادْ؟‏
* * *‏
صاحتْ بناتُ الليلِ‏
في شجرِ المواويلِ الحزينةِ:‏
لَمْ يمتْ!‏
رفعتْ غيومٌ حزنها المبتلَّ‏
في وجهِ الشتاءِ‏
ولم تمتْ‏
وتطلّعَ الجسدُ الجميلُ‏
إلى حقولِ البرتقالِ..‏
رأى السنونو دامعَ العينينِ‏
يسبحُ في بحيراتِ الغروبِ‏
كشمعةٍ سوداءَ،‏
والأشجارَ ترفعُ أذرعاً خضراءَ‏
للصبح الذي يأتي على جنح الزغاريدِ‏
الصغيرةِ كالغناءْ.‏
* * *‏
كلُّ الزغاريدِ التي كانت‏
تزفُّ الشَّعرَ للحناءِ‏
والأشعارُ وهي تزفُّ قبّرةً لطيرِ السهلِ‏
صارتْ للرثاءْ!‏
نَمْ يا محمدْ!‏
فهناكَ خلفَ الليلِ‏
ذئبٌ طاعنٌ في القتلِ‏
بين جرودنا‏
يعوي على الأيتامِ‏
في أطلالِ معبدْ!‏
نَمْ يا محمدْ!‏
وهناكَ خلفَ ضفائرِ الزيتونِ‏
يخنقُ ثعلبُ الظلماتِ ساقيةً‏
ترقرقُها قلوبُ الحزنِ بِالدمعاتِ‏
والألمِ المجرّدْ!‏
وهناكَ خلفَ النهر‏
يكمنُ للغيومِ البيضِ شيطانٌ مؤبّدْ.‏
نَمْ في ضميرِ الناي‏
يا مولاي‏
تحرسكَ العيونُ السودُ،‏
تحرسُ موتكَ العالي أصابعُ وحشتيْ حزناً‏
ويمسحُ شعركَ الذاوي أسايْ!!‏
نَمْ تاركاً لخريفنا الأبديّ‏
نوحَ ربابةٍ، وحداد نايْ!‏
نَمْ يا محمدْ!‏