كلُّ امرئ في دهشة - طالب همّاش

مفتونة بغيابها الشفّافِ‏
تنأى ثم تدنو في الجنوبْ.‏
أبداً تكرّرُ حزنها شمسُ الغروبْ.‏
أبداً تعيدُ دموعها شمسٌ‏
لحزنِ البرتقالِ الساحليِّ‏
كأنها مرآةُ عذرتها‏
إلى ما يجعلُ الأرواحَ‏
أنقى من دموعِ الغائبينْ!‏
كلُّ امرئٍ في دهشةٍ إلا جلالَ الدينِ!‏
سامعُ نأمةِ العصفورِ قبلَ الفجرِ‏
ينصتُ للعنبْ‏
فيحسُّ طعمَ الخمرِ قبلَ أوانها‏
في الصيفِ تنعشُ روحَهُ،‏
وتشيعُ في دمهِ السَكِينْ‏
كُنْ دمعةً‍!‏
فتصير روحُكَ ساقيهْ،‏
وابذرْ حياتَكَ بالأرزِّ!‏
ليسعدَ الفقراءُ يوماً قربَ قبركَ‏
بعدما تمضي السنينْ.‏
وارحلْ إلى شيرازَ قبلَ الفجرِ‏
شفّافاً حزينْ!‏
عطِّرْ ثيابَكَ بالبخورِ!‏
ورُشَّ زيتَ الأرزِ فوقَ محارمِ الغيابِ!‏
كُلُكَ نرجسٌ، طلٌّ‏
وكُلُكَ ياسمينْ‏
لا تدنُ من أسماعها إلا بأغنيةٍ مرنّمةٍ!‏
وغازلْ روحَها بالحزنِ!‏
قُلْ: فعليكِ يا شيرازُ من قلبيْ‏
التحيةَ والسلامْ.‏
وانحرْ ذبيحةَ حزنِكَ البيضاءَ‏
عندَ النهرِ!‏
يطلع من مهادِ الشرقِ‏
وجهُ الصبحِ قديساً‏
كأزهارِ الحمامْ.‏
* * *‏
مترحلاً في الريحِ‏
أقفلُ نحو صورتها البعيدةِ‏
سائلاً عن قبرها الأيامَ:‏
هل شيرازُ نائمة وراءَ الليلِ من زمنٍ بعيدْ؟‏
بالله يا قمرَ الديار الغضَّ‏
هلْ شيرازُ أغنيةٌ‏
نذوقُ عبيرَها إمّا نريدْ؟‏
أم أنها اللحنُ الذي نقفوهُ‏
حين تغيبُ شمسُ العمرِ‏
ذابلةَ الضفائرِ‏
كي نلامسَ رجعَهُ الباكي،‏
ونهرمَ من جديدْ؟‏
لكأنها قمرٌ نضيِّعُ حزنَهُ ليلاً‏
فلا نلقاهُ إلا فوقَ مئذنةٍ حزينْ.‏
كلُّ امرئٍ في دهشةٍ إلا جلالَ الدين!‏
يقرأُ في كتابِ العاشقينْ:‏
خُذْ قلبكَ الأسيانَ للنسيانِ!‏
واقعدْ نادماً سكرانَ!‏
تأتيكَ الحمامةُ من تصابيها البعيدِ،‏
ويقبلُ العشاقُ من خلواتهم‏
فقراءَ، منسيينَ‏
في كتبِ الطحينْ.‏
نَمْ هانئاً في خلوةِ البستانِ!‏
يسقط فوقكَ التفاحُ حلواً ناضجاً،‏
ويمسُّ عصفورُ الغروبِ‏
شغافَ روحِكَ بالحنينْ!‏
-يا سيدي!‏
لا شيءَ يوقدُ شمعةً في الروحِ‏
غيرُ الفقدِ والخسرانِ،‏
لا بيتٌ يظلّلُ ساكنيهِ‏
سوى دخانِ التيهِ‏
أو كوخ الدخانْ.‏
لا شيءَ غيرُ خرائبٍ منهوبةٍ،‏
وخريفُ أشجارٍ‏
وصُفْرَةُ سنديانْ.‏
لم يبقَ من شيرازَ إلا قلبها‏
المشنوقَ فوق اليتمِ كالقمرِ الجريحِِ،‏
وخمرة مفقودة في ذروة الهذيانْ.‏
كيف الوصولُ ولا زمان ولا مكانْ؟‏
-يا سيدي العالي!‏
أيكفي أن نحسَّ بطعم هذا الخمر‏
حتى ينضجَ العنبُ؟‏
أو أن نحدّقَ في غياب الشمسِ‏
حتى نلتقي شيرازَ‏
طالعةً كمئذنةٍ من الياقوتِ‏
من قلبِ الغيابْ؟‏
فنشدُّ نحو جمالها أبصارنا العمياءْ.‏
بيضاءُ أو زرقاءُ؟‏
لا تبدو سوى تلكَ الأغاريدِ‏
التي كنا أضعنا في طفولةِ عمرنا‏
تنبثُّ كالأشجارِ من قلبِ الدخانْ.‏
فنرى زماناً بائداً،‏
ومدينةً (منحوتة من توقنا للموتِ)‏
نلمسها فلا نجد القبابَ‏
ولا المآذنَ‏
لا نجدْ إلا رميمَ قلوبنا المنسيّ‏
ينبضُ في شرايينِ السرابْ.‏
ونرى السنينَ كأنما شاختْ!،‏
وقد شابتْ ذوائبها‏
فنوقنُ أننا تُهْنَا،‏
وفاتَ رحيلنا التالي قطارُ العمرِ‏
وارتحلَ الشبابْ.‏
لكأنما شيرازُ صورتنا على المرآةِ‏
نخطئها صغاراً‏
ثم نبصرها مجازاً في كهولتنا‏
فنجلسُ عندَ مجرى النهرِ‏
منتظرينَ أن يأتي الغرابْ.