ماء الرغبة المفطوم - طالب همّاش

لم ننتظرْ تلويحةَ الشفقِ الأخيرةَ‏
كي نرى قوسَ الحمامِ‏
يطيرُ حولَ عروسةِ الشمسِ‏
التي زُفّتْ إلى كوخِ الغروبِ‏
بأجملِ الأصواتِ..‏
لم نسمعْ زغاريدَ العصافيرِ‏
التي هّبتْ من الرمانِ‏
حاملةً على الشهواتِ سيفَ زقائها المسنونَ‏
أو قمرَ الشغفْ.‏
***‏
ينسلّ خلفِ غمامةٍ بيضاءَ كالأفعى‏
وفي نهر العشيّاتِ الوئيدِ‏
يصيرُ تمثالاً من البلورِ مزهوّاً بنطفتهِ..‏
ويملأُ ليلنا الأعمى‏
بأزهارِ الصدفْ.‏
***‏
كانَ الهواءُ يمرُّ كالأجراسِ‏
عبر سنابل القمحِ الطويلةِ‏
بينما الفتيات في سمرٍ‏
تنقّلُ شعرها المسودَّ‏
بين أناملِ الأمشاطِ‏
والقداحُ يملأُ أعينَ العشاقِ‏
بالعطشِ المندّى والنطفْ.‏
***‏
وعلى ضفافِ النهرِ كانت وحدها‏
امرأةُ الصباحِ‏
تفضُّ أحزانَ الغسيلِ من الدموعِ،‏
وتنشرُ القمصانَ مثلَ (حمائم) بيضاءَ‏
في حبل الغروبِ..‏
وحينَ تسمعُ روحها صوتَ الخريرِ‏
تذوبُ ركبتها الشهيّةُ‏
في زلالِ الماءِ كالصابونِ..‏
والأمواجُ تجري تحتَ ساقيها‏
كأسماكِ الخزفْ.‏
***‏
لم أنتظرْ تلويحةَ الشفقِ الأخيرةَ‏
كنتُ وحدي‏
أستعيدُ مع الحفيفِ‏
تراجعَ الموجِ الشجيّ على أديمِ الروحِ،‏
والبوحَ الجريحَ لغفوةِ الأشجارِ‏
مشدوداً كصوتِ الناي في الوادي‏
لأسرابِ الحمامْ.‏
***‏
متقلّداً سيفي على فرسِ الغيابِ‏
الحرّ‏
أقفو وحشةَ الأوعارِ في طرقِ الكآبةِ‏
أو أسابقُ عقربَ الساعاتِ‏
بالجريانِ فوقَ الرملِ حتى‏
درّةِ الموتِ الحرامْ.‏
***‏
أبداً على الإطلاقِ‏
لم أشعرْ بأجمل من عناق الريحِ‏
في هذا المدى المخضرّ‏
يضرمني صهيلُ المهرِ في البريّة الزهراءِ‏
بالشهواتِ‏
والأنهارُ تحملني على جرسِ الخريرِ‏
العذبِ..‏
فيما صوتها العالي‏
يرقّصني على نغمِ الهزامْ.‏
***‏
لكأنني فصحٌ ترجّعه على الأعيادِ‏
غاباتٌ من الأجراسِ‏
مسكرةُ الرنين‏
وكلما هبّ النسيمُ‏
سمعتُ صوتاً رائعَ الأصداءِ‏
يذروني كموّالٍ على برِّ الشآمْ.‏
***‏
ثملٌ كأني طائرُ الصبحِ‏
المحلّقُ في جبالِ الريحِ‏
أهبطُ ثم أعلو مثلَ أغنيةٍ‏
تموّجها على سفحِ الأناشيدِ‏
الجداولُ‏
والمواسمُ‏
والغمامْ.‏
***‏
أنا طفلُ هذا السهلِ‏
لم تكبْر سوى الأشجارِ من حولي‏
ولم يهرمْ سوى القمحِ‏
الذي راكضتهُ يوماً بأعراسي‏
لأنجو من نباحِ الإثم في روحي..‏
ولم يذهبْ سوى النهرِ الذي‏
يجري كطفلٍ خائفٍ‏
عكسَ اتجاه الموتِ‏
من جيبِ الجبالِ إلى المصبّْ.‏
***‏
وأنا الحزينُ على ضفاف العمرِ‏
ما شاهدتُ امرأةً‏
ولكن صوتَ أغنيةٍ‏
رعتْ حزني على مجرى الغديرِ..‏
سمعتهُ يعلو كأسرابِ الإوزِّ‏
على الأديمِ‏
فطّيرتْ روحي (عصافيراً) من الأشواقِ‏
نحو فضائها الشفافِ..‏
ما شاهداتُ امرأةً‏
ولكن طفلةً جلستْ لتملأَ بالخريرِ‏
الحلو جرّتها الذهب.‏
***‏
شاهدتها ذاكَ الصباحَ الطلقَ‏
أجملَ من حمامةِ ليلكٍ بيضاءَ..‏
تسقيها الطبيعةُ من لقاحِ اللوزِ‏
طلاّ طاهراً كالدمعِ...‏
فالتفّتْ على عنقي (زغاريدٌ)‏
مصفّاةٌ من الأعراسِ..‏
قادتني كطفلِ الشهوةِ المكفوفِ‏
في ديّارةِ الحزنِ النسائيّ المقدّسِ‏
حيث يعزفُ عاشقٌ بالناي‏
لحناً خالصاً للموتِ‏
والأشجارُ تزهرُ بالدموعِ وبالعنبْ.‏
***‏
لامستها وأنا أدورُ كهدهدٍ‏
من حولها‏
فرأيتُ عنقوداً من النحلِ الغزيرِ‏
يعبُّ من زهرِ الأنوثةِ‏
بينما طيرا حمامٍ أبيضانِ‏
يعمّدانِ هديلَ أعضائي‏
بماءِ الرغبةِ المفطوم‏
في مجرى العصبْ.‏
***‏
وعلا حفيفُ القمحِ حول أكفّنا السمراءِ‏
راح الخوخُ يسقطُ في سلالِ الريح‏
من تلقاءِ حمرتهِ‏
ويركضُ ثعلبُ العنبِ المذهّبُ‏
كالموشّحِ في سهوبِ الناي‏
محمولاً على جملِ الطربْ‏
***‏
فسمعتُ صوتَ النهرِ في الإبريقِ‏
أعذبَ من خريرِ الماءِ في المجرى،‏
وأصواتَ الثرياتِ الصغيرةِ‏
في ليالي العشقِ‏
والقمرَ الأحبّْ.‏
***‏
لكنَّ أجراسَ الخريرِ‏
استسلمتْ للنومِ‏
تحت تنهّدِ الأشجار‏
فاستلقتْ كجيتارٍ جريحٍ‏
فوقَ مهدِ الموجِ..‏
تحملها كؤوس الوقتِ كالساعاتِ،‏
والأكوازُ تتبعها بأحزان الشموعِ‏
حزينةً!‏
والنهرُ يجري صامتاً‏
خلفَ النعشْ.‏
***‏
وحططنَ سبعُ (حمائمٍ) بيضاءَ‏
في حبلِ الغروبِ‏
ينحنَ فوق النهرِ‏
والأوراق تسقطُّ من غصون اللوزِ‏
كالقبلاتِ ذابلةَ الشفاهِ..‏
سوي قناديل النبيذِ الحمرِ‏
لم تيئَسْ من التحديقِ‏
في وجهِ الغبشْ.‏
***‏
ذاكَ الزمانُ الآن لن تسمعْ صداه..‏
إذا أصختَ السمعَ في هذا المدى‏
إلا كصوتِ الحسرةِ المجروحِ،‏
لن تبصرْ من النهرِ القديمِ‏
سوى هلالٍ ضائعٍ‏
يعلو على المجرى‏
كتمثالِ العطشْ.‏