أيّوبة الأحزان - طالب همّاش

طوبى لمريَمَ‏
وَهْيَ تركضُ كالغزالَة تِحتَ بدر الصيفِ‏
خلفَ ربيعها العشرينَ‏
طوبى للبلابلِ‏
وَهْيَ تجرحُ صدرَها الشفَّافَ بالآهات‏
أوَّلَ عُمْرِهَا‏
فتذوبُ كالنسرينِ‏
عيناها نوارسُ نَرْجِسٍ زرقاءُ‏
لكنَّ الحمامةَ مِنْ ذهَبْ!‏
وسماؤها جَرَسٌ مِنَ الشهواتِ‏
مشلوحٌ على دَرْبِ الِعنبْ‏
زفّتْ إليها الماءَ كي تتزوّجَ الصفصافَ‏
لكنّ اليمامَ اختارَ محبرةَ الهديل!‏
وراحَ يكتبُ للقرى البيضاءِ‏
تلكَ حبيبتيْ!!‏
ما أعذبَ اللوزَ الذي ينمو على أهدابها السوداءِ!‏
أعذب من صلاةِ الصبح في صيفٍ بعيدٍ...‏
ما أحنّ حفيفها الهادي على الريحانِ!‏
سبعُ رسَائلَ انتحَرتْ على ترتيلها المجروحِ‏
كالسُحُبِ العتيقةِ‏
وهو يقفلُ راجعاً نحوَ النخيلِ!!‏
أريدُ أنْ أبكي إذنْ!‏
أبكي مِنَ الزيتون حتى التينِ!!‏
سَبْعُ حمائمَ انتحبتْ نحيبَ الثلجِ،‏
مالتْ وَرْدَةٌ عمياءُ نحوَ النهرِ‏
وارتحلتْ مناديلُ الوداعِ إلى الحدا..‏
لكنَّ مريمَ لا تميلُ!!‏
إلى النخيلِ!‏
وقلبُهَا مرآتُهَا للغيمِ‏
تَسْمَعُ من بعيدٍ ريحَهَا الخرساءَ تعوي..‏
-والظلامُ محدَّبْ بالحزنِ-‏
تَسْمَعُ طَرْقَ أَجْرَانِ البكاءِ‏
على أعالي النَّخْلِ:‏
أنْ هُزِّي إليك بجذعِهَا!‏
فتهزُّ جذعَ الروحِ‏
مسدلةً ضفائرها على التفّاحِ!!‏
مثلَ سحابةٍ عذراءَ في أعلى القرى‏
لكنَّ رَطْباً لَنْ يَهرَّ على مراثيها،‏
بل الرمانُ!‏
هزَّتْ مرّةً أخرى‏
فهرَّتْ فوقَ راحتِهَا توائمُ مِنْ حمامٍ!‏
والغيومُ تنوحُ كالزيتون فوقَ مآذنِ الميلادِ!‏
كيفَ تصدّق امرأةً بفطرتها إذنْ؟‏
أنْ النبوءةَ زهرةٌ بيضاءُ‏
في هذا السواد!‏
وكلما مدَّتْ أصابعَهَا إلى الينبوعِ‏
كي تُحْصي سنينَ شبابها‏
طارتْ حساسينُ الصلاةِ إلى الحدادِ!!‏
كأنّها أيّوُبَةُ الأحزانِ!‏
لا ريحٌ لتحرثَ روحها بالدمعِ..‏
لا قَمْحٌ لتتركَ صوتها للياسمين‏
ولو أرادَ الليلُ ظَلَتْ كالغزالةِ‏
تحتَ بَدْرِ الصيفِ‏
خلفَ ربيعها العشرينَ‏
تحملُهُا النجومُ على سريرِ غنائها العالي‏
كأغنيةٍ،‏
وتمسحُ صدرَها بالحزنِ أقمارُ السنينْ!‏
***‏
وجهٌ لمريمَ وهي تحفرُ في زوايا الدمعِ‏
بئراً للنواحِ المُرّ..‏
وجهٌ للقصيدةِ وهي ترثي حزنَها‏
بعدَ الغروبِ!‏
أكلَّما مالتْ على شبّاكنا الأشجارُ نادمة الحفيفِ‏
بكتْ سماءُ الحزن صفراءَ الغيومِ!؟‏
وأنصتتْ أرواحُنَا‏
لنحيب مريَمَ في الجنوبِ!!‏
تخاطبُ الظلماتِ‏
جاثيةً وراءَ خريفها النائي‏
كأرملةِ الجليلِ!:‏
أنا التي أطلقتُ أسمائيْ على الصفصافِ‏
كي يَرثَ الغروبُ سكينتيْ،‏
وزرعتُ زهرَ الحزنِ في دربِ الهديلِ!!‏
أنا البكاءُ المرُّ في وجْه الرياحِ‏
أنا التماثيلُ..‏
التي نامتْ على صلواتِهَا‏
ظمآنةْ للموتِ!‏
يرثيني ضريحُ الحبِّ‏
والأشعارُ تُولِمْني قوافيها‏
لأسكنَ في عراءِ الأرضِ‏
نادبةً عذابي فوقَ أشجارِ النخيلْ!!‏
ورفعتُ حزنيْ مثل رابيةٍ على الزيتونِ‏
في هذا العويلْ!!‏
أَستَعْطِفُ الناياتِ من ألميْ!‏
وأحفرُ في جذوع الحَوْرِ أوجاعيْ الطويلةَ‏
لا صهيلٌ عادَ من بَرِّ الشآمِ،‏
ولا تراجعٌ مِنْ رُبَى نجدٍ صدى‏
لكنَّ وحيّا رائعَ القَسَمَاتِ‏
حَلّ وثاقَ أحشائيْ‏
فَهَلّ الطفلُ أجمل مِنْ صَبَابةِ‏
شَهْوةٍ زرقاءَ غابتْ في أصائل كربلاءْ!!‏
وجهٌ لمريمَ وهي تذرفُ كالسماءِ‏
دموعَهَا التعبى‏
على الينبوعِ..‏
إنشادٌ لصبحِ اللوز فوقَ مواسمِ الليمونِ‏
تلكَ صلاتَها الأولى‏
ولكنَّ انحناءةَ ضلعها القرويِّ‏
تهطلُ كالشفاءِ على يَسُوعَ!‏
كأنّهُ أيقونَةٌ مرسومةً بالدمعِ والنعناعِ‏
سبحانَ الذي تَرَكَ الحساسينَ الصغيرةَ‏
في محارمِ حزننَا ترعى..‏
وسبحانَ الذي تركَ النوارسَ‏
في سواحلِ نومنا تجرى،‏
وخلَّى للمزاميرِ الجميلةِ في الغناءِ‏
أصابعَ العشَّاقِ..‏
سبحانَ الذي مالتْ على صلواتهِ زيتونةٌ أُنثى‏
فعلّمَهَا الضياء‏
وقالَ للأشجارِ: يا..‏
كوني مباركةً، وسيريْ بالهديلِ!‏
فإنَّني أعطيكِ أسماءَ الغيابِ..‏
وقالَ للأجراس: كوني آخرَ الطيرِ التي‏
سمعتْ صلاتيْ ثمَ غابَ‏
كَشَلْحَةِ النسيانِ خلفَ مواسمِ العنَّابِ‏
غابَ ضياءُ كوكبهِ المهيبْ!!‏
لكنَّ أجراسَ اليَسُوْعِ البيضَ‏
طارتْ كالحمائمِ من شجيراتِ الصليبْ!‏
لتدقَّ عَنْ بُعْدٍ رثاءَ حدائها،‏
وتراجعتْ للبيلسانِ!‏
وكان يُجدرُ بالرسائلِ أن تموتَ‏
على صدورِ التائبينَ!!‏
وبالمناديلِ البعيدةِ أن تمزّقَ قلبَها‏
حُزْناً على حبل الأنين!!‏
وبالمواويلِ الحزينةِ‏
أن تعمِّرَ فوقَ جذعِ الليلِ‏
تمثالَ الندمْ!‏
بَلْ كانَ يجدرُ بالغيومِ السودِ‏
أن تبني قباباً للمراثي‏
فوقَ جثمانِ الحياةِ!!‏
وبالجراحِ السبع أن تلقي‏
بخرقةٍ روحِهَا الثكلى‏
صليباً للألمْ!!‏
وتمدّه في وجهِ مريمْ..‏
لتنوحَ كالطيّونِ فوقَ ربابةِ الماضي‏
وتتركَ شَعْرها يبكي على شَمْسِ الأفولِ..‏
حفيفهَ المكتوم‏
واأَسَفَاْهُ!!‏
واقفة على ظلماتِ وحشتِهَا بمفردها!‏
ورافعة مراثيها إلى أعلى الغيومِ!!‏
تدقّ بابَ الليلِ كالخنساءِ..‏
لكن الرثاءَ..‏
يمامةٌ مجروحةٌ بالريحِ في بابِ الشتاءِ!!‏
و(مريمٌ) كلُّ النساءِ‏
ونايهنَّ الأبيضُ الولهانُ!‏
مريمٌ قبراتٌ للسجودِ بلا شواطئَ‏
والبكاءُ الغضُّ للرمانِ...‏
أعراسُ الأيائلِ في قميصِ العيدِ‏
حنطةُ حبّنا في أوّلِ البستانِ..‏
واأسفاهُ!!‏
مريمُ خبزَنَا المحروقُ‏
والغيمُ الذي قد ضاعَ من أعمارنا‏
في البردِ،‏
آخرُ ما سمعنا عن وجودِ اللهِ في الإنسانِ..‏
وامرأةٌ سرابٌ‏
لا حدودَ لحزنِهَا‏
منذورةٌ للدمعِ والريحانِ!‏
تتركُ للرياحِ ضريحها الحادي‏
وترفعُ لليالي البيض طائرها الحزينَ!‏
ولو أرادَ الليلُ‏
ظلّتْ كالغزالةِ تحتَ بدرِ الصيفِ‏
خلفَ ربيعها العشرين..‏
تحملها النجومُ على سريرِ غنائها العالي‏
كأغنيةٍ‏
وتمسحُ صدرَهَا بالحزنِ أقمارُ السنينْ