الشّهيد - بدوي الجبل

وفاؤك لا عسر الحياة و لا اليسر
و همّك لا الدّاء الملحّ و لا العمر

إذا المرء لم يملك و ثوبا على الأذى
فمن بعض أسماء الرّدى الحقّ و الصبر

إذا ملكوا الدنيا على الحرّ عنوة
ففي نفسه دنيا هي العزّ و الكبر

و إن حجبوا عن عينيه الكون ضاحكا
أضاء له كون بعيد هو الفكر

فليلته صبح و عسرته غنى
و أحزانه نعمى و آهاته شعر

أنزّه آلامي عن الدّمع و الأسى
فتؤنسها منّي الطلاقة و البشر

و أضحك سخرا بالطغاة و رحمة
و في كبدي جرح و في أضلعي جمر

كفاء لعسف الدّهر أنّي مؤمن
و عدل لطغيان الورى أنّني حرّ

و ما ضرّني أسر و نفسي طليقة
مجنّحة ما كفّ من شأوها أسر

أهدهد من أحزانها كلّما ونت
و يسلس بعد المري للحالب الدرّ

أطلّ على الدنيا عزيزا : أضمّني
إليه ظلام السجن أم ضمّني القصر

و ما حاجتي للنّور و النّور كامن
بنفسي لا ظلّ عليه و لا ستر

و ما حاجتي للأفق ضحيان مشرقا
و نفسي الضحى و الأفق و الشمس و البدر

و ما حاجتي للكائنات بأسرها
و في نفسي الدّنيا و في نفسي الدّهر

يريدون أسراري و للّيل سرّه
إذا نقّبوا عنه و ما للضّحى سرّ

لعمرك للضعف الخفاء و كيده
و للقوّة الكبرى الصّراحة و الجهر

و ما أكبرت نفسي سوى الحقّ قوّة
و إن كان في الدّنيا لها النّهي و الأمر

ة كنت إذا الطّاغي رماني رميته
فلا نصرتي همس و لا غضبي سرّ

و أحمل عن إخواني العسر هانئا
و يبعدني عنهم إذا أيسروا اليسر

فليت الذي عاطيته الودّ صافيا
تجاوزني من كأسه الآجن المرّ

و أشقى إذا أعرضت عمّن أحبّه
و لكن دواء الكبر عندي هو الكبر

و نفسي لو أنّ الجمر مسّ إباءها
على بشرها الريّان لاحترق الجنر

و يا خيبة الطاغي يدلّ بنصره
و من سيفه لا روحه انبثق النّصر

يغالي بدنياه و يجلو قتونها
و دنياه في عينيّ موحشة قفر

رأيت بزهدي ما رأى بغروره
فأعوامه ساع و آماده فتر

شكا حبّه لي و هو ريّان من دمي
و أنيابه حمر و أظفاره حمر

و صانع يستجدي الولاء فياله
غنى ملك الدّنيا و معدنه الفقر

***

تلّفّت لا شملي جميع و لا الهوى
قريب و لا فرع الصبى عبق نضر

و يا سامر الأحباب مالك موحشا
معاذ الهوى بل أنت يؤنسك الذكرا

أديماك من حب القلوب تمزّقت
عليه فسال الحبّ و الشوق و الطّهر

إذا ظمئت في قطعها البيد نسمة
ألمّت به وهنا فرنّحها السّكر

فبا للصّبا العجلى إذا عبرت به
تأنّت كما يرتاح في الواحة السّفر

تمنّيت إجلالا له و كرامة
لو أنّ حصاه ـنجم الفلك الزّهر

و أجزع إن مرّت به الرّيح زعزعا
و أسرف حتّى جاوز الغاية القطر

فليت الرّبيع الطلق عاطاه كأسه
مدّى الدّهر لا برد عليه و لا حرّ

لقد ساءني غاد عليه و رائح
فمن كبدي فوق الثرى قطع حمر

و لو قدرت صانته عيني كرامة
كما صين في أغلى خزائنه الدرّ

تطوف بك الأحلام سكرى كعهدها
و ينطف من أفيائك الحبّ و العطر

و يضحك لي وجه نديّ منوّر
كأن لم يغيّب من طلاقته القبر

و حتّى كأن لم يطوه عنّي الرّدى
فهل بعث الأموات أم ردّه السحر

تلمّ به الذكرى فيحيا كبارق
طواه الدّجى عنّي ليطلعه الفجر

و يبعثه حبّي و في كلّ خافق
صحيح الهوى بعث الأحبّة و النشر

فيا قلب فيك الرّاحلون و إن نأوا
و فيك النّدامى و الرّياحين و الخمر

خلعت على الموتى الحياة و سرّها
و طالعهم منك القيامة و الحشر

وفاء يصون الرّاحلين من الرّدى
إذا راح يدني من مناياهم الغدر

و يا سامر الأحباب طيف و لا كرى
و سكر و لا راح و ريّا و لا زهر

كلانا على ما كلف النفس من رضى
أضرّ به نأي الأحبّة و الهجر

أبا طارق هذي سراياك أقبلت
يرفّ على أعلامها العزّ و النصر

لقد قدنها حيّا و ميّتا فما ثنى
شكيمتها عنف و لا هدّها ذعر

فمر تشمع الدنيا هواك و ينطلق
إلى الفتح بعد الفتح عسكرك المجر

و مر يتمزّق كلّ قيد أبيته
و يسرف على طغيانه الحطم و الكسر

تبرأت في دنياك من كلّ ناكث
ذليل فلا عرف لديه و لا نكر

و من زاهد لمّار رأى الصّيد مكثبا
تمزّق عنه الزهد و افتضح المكر

و ممّن يظنّ الفقر عذرا لكفره
و ما أقنع الإيمان إلاّ الرّدى عذر

يدلّ بماضيه فهل راح شافعا
بذي ردّة نسك تقدّم أو برّ

عصابة شر راح يبرأ منهم
إلى الله إبقاء على نفسه الشرّ

رويدك شرّ الكافرين موحّد
ألحّ عليه بعد إيمانه الكفر

عباديد شتّى ألّف الوزر بينهم
فلا رحم إلاّ الضراعة و الوزر

و بين اللئام العاثرين و إن نأت
مناسبهم قربى السجيّة و الصهر

***

تمنّيت أنّ الغيب شفّ فلم يعق
عن الملأ الأعلى حجاب و لا ستر

و لحت لنا في عالم الحقّ و التقى
على الموعد الهاني المقيمون و السفر

فقرّت بما تلقاه عيناك و انطوت
على النشوة الكبرى الجوانح و الصّدر

أتعلم أنّ الشام فكّت إسارها
فلا قيد بعد اليوم فيها و لا أسر

يصرّف أمر النّاس فيها موفّقا
معاوية الدنيا و صاحبه عمرو

و أنّ رياضا هزّ لبنان فانتخت
شمائل في لبنان ميمونة غرّ

رمى كلّ برد أجنبيّ مزوّر
و عادت لقحطان المناسب و النجر

و لمّا شكى لبنان ضجّت أميّة
و جنّت له بغداد و التهبت مصر

أبا طارق أبقيت للحقّ سنّة
هي العزّة القعساء و الفتكة البكر

بنيت عليها كتلة و طنيّة
من الصيد ما خانوا هواك و لا فرّوا

لقد حملوا عنك الجهاد و ما ونى
و حقّك ناب للخطوب و لا ظفر

فإن أقسموا أن يفتدوا بنفوسهم
أمانتك الكبرى لديهم فقد برّوا

نماك و سيف الدولة الدار و الهوى
و غنّاكما أندى ملاحمه الشعر

و أقسم بالبيت المخرّم ما احتمت
بأمنع من كفّيكما البيض و السمر

فإن تفخر الشهباء فالكون منصت
و حقّ بسيفي دولتيها لها الفخر

***

أحبّاي لو غير الردى حال بيننا
دنا البرّ في عينيّ و انكشف البحر

بأسماعكم وقر و قد رحت شاكيا
و حاشا ففي سمع الثرى وحده الوقر

و أوحشتم الدنيا كأن لم تدس بكم
على الهام في الرّوع المحجّلة الشقر

و حتّى كأنّ الرّمل لم يروه دم
كريم المصفّى لا أجاج و لا نزر

فوارحمتاه للنّائمين على الطوى
و أتخم من قتلاهم الذئب و النسر

تهدّهم الصحراء هدّا و للرّدى
سلاحان في البيد : الهواجر و القرّ

و لا ماء إلاّ ما يزوّره بها
سراب نديّ اللّمح منبسط غمر

إذا سقطوا صرعى الجراح تحاملوا
على نفسهم و استؤنف الكرّ و الفرّ

و لو آثروا الدنيا لقد كان جاهها
تليدا لديهم و القسامة و الوفر

***

فمن مبلغ عنّي الشباب قصيدة
يحلّى بها ملك و يحمى بها ثغر

تطوّف في الدنيا الوساع كأنّما
هي الخضر أو يروي شواردها الخضر

هززت بها نوّامهم مترفّقا
و يؤذي الشباب المرتجى اللّوم و الزجر

إذا كنت في نصحي لهم غير موجع
فلي بالذي يرضي شمائلهم خبر

و عندي من زهز الشباب بقيّة
يرفّ الصبا فيها و أفياؤه الخضر

ألمّت بي الأيّام حمرا نيوبها
فما شاب لي قلب و لا شاب لي شعر

دروب العلى للسالكين عديدة
و أقربها للغاية الموحش الوعر

فلا تقنطوا من غاية المجد لا يرى
لها العقل إمكانا فقد ينبع الصخر

***

أعيذ من اليأس المرير نفوسكم
تلاقى على إعاناتها الظلم و القهر

إذا ركدت بعد الهبوب فإنّها
لكالبحر من أخلاقه المدّ و الجزر

أرى العفو و النسيان من خلق الصّبا
و لم ينس عند الشّيب حقد و لا ثأر

و ما أكرم النسيان و العفو منكم
إذا لم يضع حق و لم يحتسب وتر

و أنتم على دلّ الشباب و زهوه
و أهوائه ركن القضيّة و الذخر