حنين الغريب - بدوي الجبل
وفاء كمزن الغوطتين كريم
و حبّ كنعماء الشام قديم
و شعر كآفاق السماء تبرّجت
شموس على أنغامه و نجوم
يلمّ (شفيق) كوكبا بعد كوكب
و نسّق منها العقد فهو نظيم
معان بألوان الجمال غنيّة
كما زفّ ألوان الطيوب نسيم
و وشي كأحلام الشباب يصوغه
أنيق بأسرار البيان عليم
سقاني سلاف الشعر حتّى ترنّحت
دموع و غنّت لوعة و كلوم
ففي كلّ بيت ريقة أو سلافة
و ريحانة شاميّة و نديم
***
تطوّحني الأسفار شرقا و مغربا
و لكنّ قلبي بالشام مقيم
و أسمع نجواها على غير رؤية
كأنّي على طور الجلال (كليم)
و ما نال من إيماني السّمع أنّني
أصلّي لها في غربتي و أصوم
و لا نال من قدري اغتراب و عسرة
يصان و يغلي الدرّ و هو يتيم
و للمجد أعباء و لكنّها منى
و للمكرمات الغاليات هموم
و خاصمني من كنت أرجو وفاءه
و للشّمس بين النيّرات خصوم
يلاقي العظيم الحقد في كلّ أمّة
فلم ينج من حقد الطّغام عظيم
و يقذى بنور العبقريّة حاسد
و يخزى بمجد العبقريّ لئيم
و تشقى على الحقد النّفوس كما انطوت
قلوب على جمر الغضا و حلوم
و لم يدر نعماء الكرى جفن حاقد
و هل قرّ عينا بالرّقاد سليم
و يزعم أنّ الحقد يبدع نعمة
و هيهات من نعمى البنين عقيم
و ما بنيت إلاّ على الحبّ أمّة
و لا عزّ إلاّ بالحنان زعيم
و لا فوق نعماء المحبّة جنّة
و لا فوق أحقاد النّفوس جحيم
هو الحبّ حتّى يكرم العدم موسر
و يأسى لأحزان الغنيّ عديم
و حتّى يريح الذّنب من حمل وزره
حنان بغفران الذّنوب زعيم
و يا ربّ قلبي ما علمت . محبّة
و عطر و وهج من سناك صميم
و آمنت حتّى لا أروم لبانة
تخالف ما تختاره و تروم
جلا نورك الدنيا لعيني وسيمة
فلم يبق حتّى في الهموم دميم
و سلّمت أمري لا من اليأس بل هوى
أصيل و إرث طاهر و أروم
فررت إلى قلبي من العقل خائفا
كما فرّ من عدوي المريض سليم
تألّه عقل أنت يا ربّ صغته
و كاد يردّ الميت و هو رميم
و ضاقت به الدنيا ففي كلّ مهجة
هواجس من كفرانه و غموم
و أبدعت هذا العقل نعمى قطافها
فنون كأطياب الهوى و علوم
ترفّ حضارات عليه وضيئة
و خير كإغداق السماء عميم
و غرّد في عدن لحورك شاعر
و غازل أسرار السماء حكيم
فما بال هذا العقل جنّ جنونه
فردّ ملاك الطّهر و هو أثيم
و زلزل منه البرّ و البحر كافر
بنعماك مرهوب الحتوف غشوم
و في كأسه عند الصّباح سلافة
و في كأسه عند المساء سموم
و يعطي المنى ما تشتهي فهو محسن
و ينهب ما أعطاه فهو غريم
تحدّاك حتّى كاد يزعم أنّه
شريك لجبّار السّماء قسيم
و حاول غزو النّيرين فردّه
عن الذروة العصماء و هو رجيم
و كفّ عنان العقل قسرا فربّما
أثير بإلحاح السّفين حليم
جلت هذه الدّنيا لعيني كنوزها
لوامع يغري برقها فأشيم
أفانين من حسن وجاه و نعمة
معادن نور كلّهنّ كريم
و وشي به الألوان حيرى كأنّها
سماء فتصحو لمحة و تغيم
و لم أتردّد و انتقيت .. و حبّها
و أحلامها ما اخترت حين تسوم
قد اختصرت دنيا بقلبي و عالم
كما اختصر العلم الشتيت رقيم
و توجز في قارورة العطر روضة
و توجز في كأس الرّحيق كروم
و أعرض إعراض الخليّ من الهوى
و بي من هواها مقعد و مقيم
و ما حيلتي إن نمّ عن نفسه الهوى
هو العطر و العطر الزكي ّ نموم
تشابهت السّمراء و الدّهر شيمة
كلا القادرين القاهرين ظلوم
و أكرمها عن كلّ لوم وأنثني
أعاتب قلبي وحده و ألوم
و لو أنّ شعري دلّل الرّيم نافرا
تلفّت يجزيني الصبابة ريم
***
تبادهني عند البحيرة دمّر
و روض على أفيائها و شميم
و ورق على شطّ البحيرة حوّم
و ورق على قلب الغريب تحوم
خيال جلا لي الشام حتّى إذا انطوى
تنازع قلبي عبرة و وجوم
و قرّبها ما شئت حتّى احتضنتها
و غابت بحار بيننا و تخوم
و حيّت من الرّوح الشاميّ نفحة
ولوع بأشتات الطّيوب لموم
و لاح صغاري كالفراخ و أمّهم
حنون كورقاء الغصون رؤوم
فراخ و إن طاروا و للريح ضجّة
و للرعد زأر في الدّجى و هزيم
فطرنا على حبّ البنين ، سجيّة
تلاقى عليها عاذر و مليم
يشبّ الفتى منهم و يبقى لرحمتي
كما كان في عينيّ و هو فطيم
و هان بنعماء الطفولة ما درى
أهادن دهر أم ألحّ خصيم
غرير يبيّن القول بل لايبينه
طفور كأطلاء الظّباء بغوم
نزعت سهام القلب لمّا خلعته
عليه و نزع المصميات أليم
و جرت على قلبي فأخفيت أنّه
مدمّى بأنواع السّهام كليم
و لولاهم ماروّضتني شكيمة
و لا لان منّي في الصّعاب شكيم
***
و هيهات منّي في البحيرة دمّر
و سجع بوادي الرّبوتين رخيم
إذا لاح لي وجه البحيرة قاتما
ألحّ عليه عاصف و غيوم
فوجه أديم الشام طلق منوّر
و وجه بحيرات السماء قسيم
تعلّلت لا أشكو سقاما و لا أذى
بلى كلّ ناء عن هواه سقيم
و يحزنني دوح البحيرة عاريا
و أوراقه الخضراء و هي هشيم
و أبسط كفّي أقطف الماء عابثا
كأنّ المويجات الصّغار جميم
و تلك الظلال الحاليات عواطل
على كلّ أيك وحشة و سهوم
تعرّت من الغيد الملاح و طالما
تغطّى بأسراب الملاح أديم
رسوم هوى ما استوقفت خطو عابر
كما استوقفت ركب الفلاة رسوم
و لا لثم الحصباء فيها متيّم
يشمّ الهوى من عطرها فيهيم
يجلّلها اللّيل البهيم و مثله
ضحى كالدّجى غمر السواد بهيم
و شمس الضحى خود كعاب يضمّها
لغيران من صيد الملوك حريم
يردّ و يجلى عن كوى الغيم وجهها
كما ردّ عن باب البخيل يتيم
و يشكو الضحى من هجرها متوجّعا
و يوحشه هجرانها و يضيم
تأبّت على جهد الضحى فكأنّها
من الغيد مكسال الدلال نؤوم
و ضمّ الظلام السكب ظلاّ لجاره
كأنّ الظلال المغفيات جسوم
***
يطارحني دوح البحيرة شجوه
كلانا معنّى بالزّمان هضيم
و أشكو له البلوى و يشكو كأنّنا
حميم يساقيه العزاء حميم
أتشكو و لكن عندك الريح و الدجى
و للجنّ من شتّى الظلال نجوم
و عندك آلاف الطّيوف حوائم
روان لأسرار البحيرة هيم
تلملم أسرار البحيرة شرّدا
و يفتنها سكب الشذا فتريم
هنا كلّ أسرار البحيرة و الرؤى
طوافر في دنيا الخفاء تهيم
هنا عرس الأطياف يفترش الدّجى
و يقعد في أحضانه و يقوم
خفاء يضجّ الصمت فيه و بلبل
تحدّى ضجيج الصمت فهو نغوم
و لفّ الخفاء الحسن حتّى شكى الهوى
و غار حرير مترف و رقوم
فدع لومه إن لم يلح لك سحره
خيالك لا سحر الخفاء ملوم
هنا ألف الأطيار و الناس رحمة
فللطير أنس فيهم و لزوم
إذا انبسطت راح فللطير فوقها
حنين إلى سمح القرى و جثوم
فيا خجلة الصحراء لم ينج جؤذر
و لا قرّ عينا بالأمان ظليم
و لم تهن بالعشّ البعيد حمامة
فصيّادها صعب المراس عزوم
شكا الطّير من ظلم الأناسيّ و اشتكت
ظباء و عشب في الفلاة نجيم
فبا ربّ لا أقوى من الطّير عشّه
و لا راع أسراب الظباء غريم
و لا أوحشت رمل الفلاة جاذر
و ورد يندّي حرّها و فغوم
و كلّ غمام مرّ في الرّمل ديمة
و كلّ كنّاس للظباء مديم
رمال كبرد عاطل الوشي حاكه
صناع معنّى بالبرود سؤوم
فزوّقه بالوشي غاد ورائح
و عدو جياد ضمّر و رسيم
و يا ربّ في الإنسان و الطير احتمى
بغيرك مقصوص الجناح ظليم
و صن كلّ زرع أن ينازع خصبه
هجير و ريح – لا ترقّ – حطوم
سنابل وفّت للطيور زكاتها
فحنّت إليها جنّة و نعيم
و يا ربّ تدري الشام أنّي أحبّها
و أفنى و حبّي للشام يدوم
و لي في ثراها من لداتي أعزّة
حماة إذا استخذى الشجاع قروم
تهاووا تباعا واحدا بعد واحد
عليه انفراط العقد و هو نظيم
تساقوا مناياهم ضحى العمر و انطوى
شبابهم الريّان و هو تميم
و أسرف في الذكرى لأنزح نبعها
و لكنّ نبع الذكريات جموم
إذا قلت غاضت بعد لأيّ تدفّقت
و للموج فيها كرّة و هجوم
و تسدل أحيانا شفيف لثامها
كما لثم الفجر الضحوك سديم
و في كلّ أيك لي على الشام منسك
و في كلّ دوح زمزم وحطيم
و كلّ مقام فيك حتى على الأذى
حميد و كلّ النأي عنك ذميم
حوالي الصبا إن لم تدرك عواطل
و ريح الصّبا ما لم تزرك سموم
و يا ربّ إن سبّحت و الشام قبلتي
فأنت غفور للذنوب رحيم
تهلّل عفو الله للذنب عندما
أطلّ عليه الذنب و هو وسيم