بين يديك أيُّها العالم - رياض الصالح الحسين

فلتأتِ إليَّ الآن
فلتأتِ إليَّ الآن
الباب مفتوح و النافذة مفتوحة
و كل ما هو لي
و كل ما هو ليس لي
و كل ما رأيته و عشته و انتظرته
ينتظرك الآن:
المائدة و السرير و الضوء و رائحة جسدي
العشب و الأسماك و الأزهار و قلبي
كل شيء ينتظرك
كل شيء ينتظرك
فلتأتِ إليَّ الآن
إنَّ الزمن لا يتغيَّر أبدًا
إنَّ الزمن لم يتغيَّر قط
فالصيف كالخريف
و السبت يشبه الأحد و الأربعاء
أمَّا الذي تغيَّر دونما انقطاع
فهو نحن
نحن الذين نذهب إلى الحروب و المصانع و المراعي
و نبتكر كل ما له علاقة بنا:
الرصاص و الخبز
السجون و الحريَّة
السجائر و أقلام الرصاص
السكاكين و الورق و الأغاني
الألعاب و القيود و المبيدات الحشريَّة
إنَّنا نفعل كلّ ما نستطيع
بين يديك أيُّها العالم
..
بين يديك أيُّها العالم
دمي يسيل الآن
يسيل و أراه
يسيل و يتبعثر و يتشابك و يفترق
ينحني و ينكسر و يميل يسارًا و يمينًا
إنَّهُ دمي أيُّها العالم
دمي الصامت الثرثار
الذي يرسم بنفسه صورتي الشخصيَّة
و وجه من أحبُّ و أكره
..
بين يديك أيُّها العالم
متدفِّق و منطوٍ
بعيد و قريب
أتنقَّل من شارع إلى جدار
و من صديق إلى قاتل
و من أغنية إلى غبار
أتنقَّل و أتنقَّل
حاملاً خضاري و قمحي و كراريسي
بنادقي و زهوري و فراغي
دونما راحة و دونما تعب
ذلك أنَّني أعيش لأتساءل
أو أتساءل لأعيش:
ما الذي فعلت بنفسك يا هاملت؟
و ما الذي تنتظرينه يا بنلوب؟
و ماذا أعطت لك الحياة يا سقراط؟
و لم تثير رعبنا يا هيتشكوك؟
و أنتَ يا أبي...
أيُّها السكِّير، المريض، المقامر
أيُّها الحالم، الطيِّب، المسكين
أما زلت تتناول عشاءك المعتاد
بيضتين مسلوقتين
قليلاً من الزبدة
نصف رغيف
و همومًا كاملة
و أنتِ يا أمِّي...
أيَّتها الشجرة التي لم تثمر غيري
أما زلتِ تنامين باكرًا
عاريةً إلاَّ من أوراقك الخضراء
الخضراء دائمًا بين يدي العالم؟.
..
بين يديك أيُّها العالم:
النافذة مشرعة و أنا وحيد
(من يأتي إلى من)
الأضواء ساطعة و أنا معتم
(من يضيئني من)
السفر... السفر... السفر...
هو ما أريد
الحريَّة... الحريَّة... الحريَّة
هي ما أطلب
أن أضمَّ المرأة
و أسحب القمر من أنفه إلى غرفتي
أن أرقص و أرقص و أرقص
حتَّى تتعب الموسيقى
أن أحملك أيُّها العالم
أهدهدك كطفل
و أزعل منك إذا أخطأت في الحساب
أن آكل و أعمل و أشرب و أتنفَّس
كما يفعل المبدع الصغير الكبير
الذي يزرع القمح بين الصخرة و الصخرة
و يترك للطفل حريَّة الحركة و البكاء
المبدع الصغير الكبير
الذي يشبك يديه خلف ظهره
في العطلات الأسبوعيَّة
سعيدًا ببطاله النظيف
و ذقنه الحليقة
إبنك أيُّها العالم
إبنك الطويل، القصير، البدين، النحيل، الذكر، الأنثى، العاجز، العطشان، الخائف، المضيء، المتردِّد، المباشر، الصادق، البسيط، المغامر، المجنون...
إبنك الذي من سهول و ماعز و مطر كثيف
الضائع بين سبارتاكوس و نيرون
بين يسوع و يهوذا
الذي جرَّبَ كل شيء
و لم يتوصَّل إلى شيء
لأنَّهُ...
لأنَّهُ ما زال بين يديك أيُّها العالم.
..
... و أنا أنتظرك الآن
حزينًا كرسالة لم تصل
و وحيدًا كفزَّاعة عصافير
أنتظرك و أعرف أنَّك معي
رجلاً و امرأة و طفلاً
طيرًا و موسيقى و غابة و طريقًا طويلاً...
و سواء كنت في العمل أو البيت أو الشارع
أراك و أعرفك
أفتقدك و أسأل عنك
و أينما ذهبت سأتبعك
و كُلَّما التقيتك سأهرب منك
لكنَّني دائمًا... دائمًا
أفتح لك الباب و قلبي
و أقول تعال
قبّلني قبّلني قبّلني
قبّلني قبّلني قبّلني
هذه أصابعي و هاتان عيناي
هذه أظافري و أنيابي
و هذا هو جسدي
دافئًا و بردان و محمومًا
و هذه هي نفسي
فارغة إلاَّ من الصخور و الرمال
و ممتلئة بكل شيء
و كل شيء لا يستطيع احتواءها
حتَّى أنت...
حتَّى أنت أيُّها العالم.
..
بين يديك أيُّها العالم
أعدُّ حروبي و هزائمي و انتصاراتي
و أسجِّلُ أسماء الجلاَّدين و الضحايا
أسماء العشاق و الفاشلين و المغامرين و المضطهَدين
و لا أنسى إسمي
إسمي الوحيد، المتكرِّر، المتفرِّد
الذي يعرفه الجميع و لا يعرفه أحد
محمود أو الياس أو مريم
رياض أو سوزان أو عادل...
ما الذي يهمّني من ذلك؟
فالجميع يحبُّون و يكرهون و يزورون المقابر
(على الأقلّ مرَّة واحدة بعد عمر مديد)
و الجميع عندما ينامون
ينامون بطريقة واحدة و مختلفة
و لذلك لا نختلف في شيء
سوى أن بعضنا ينام بعين مفتوحة
و بعضنا لا ينام أبدًا
و بعضنا ينام دائمًا:
في قبر، أو حانة، أو وظيفة
في صحيفة، أو كتاب، أو متحف
و الجميع الجميع
يملكون الأيدي و الرقاب و الصدور و الذكريات
غير أنَّ بعضهم لا يملكون القلب
و بعضهم قلوبهم سوداء
و بعضهم رموا قلوبهم في البالوعات و استراحوا
استراحوا بين يديك أيُّها العالم
..
بين يديك أيُّها العالم
أدور و أدور و أدور
كدواليب الحظ
ثمَّ أتوقَّف على رقم
لا علاقة لي به
و سواء كنت ورقة يانصيب خاسرة أو رابحة
و سواء كنت رقمًا أحاديًّا أو مزدوجًا
فالحصان الخاسر لن ينال الجائزة
و الحصان الرابح لن يجني سوى القليل أو الكثير من التبن و الذرة
أمَّا الرابح الوحيد
فهو الذي يملك الحصان و يقوده و يوجِّهه
الرابح الوحيد
صاحب المهماز و السوط و القبضتين الفولاذيَّتين
و أنا ملكك أيُّها العالم
أنا جوادك الخاسر
و نحن ملكك أيُّها العالم
نحن جيادك الخاسرة
ننطلق و ننطلق و ننطلق
و أخيرًا إلى الاسطبلات نعود.
..
بين يديك أيُّها العالم
المدراس
الأصدقاء
الثقافة
التاريخ
و الدولة هي الدولة
بين يديك أيُّها العالم
نحن لسنا سعداء
بين يديك أيُّها العالم
نحن لسنا تعساء
نحن لا شيء البتَّة
هذا ما يقوله النسيم
و هذا ما تقوله أمريكا
بين يديك أيُّها العالم
نردِّد الكلمات
الحريَّة... الحريَّة... الحريَّة
الخبز... الخبز... الخبز
الحب... الحب... الحب
إنَّنا نردِّد الكلمات
منذ توت عنج آمون
و حتَّى آخر جثَّة في بيروت الشرقيَّة
الخبز أيَّتُها الأمم المتَّحدة و المتفرِّقة
الحب أيُّها الله
الحريَّة أيَّتُها الأصفاد و الأسلاك الشائكة
و الحياة... الحياة
بين يديك أيُّها العالم
__________
شباط – 1980