غرفة صغيرة و ضيِّقة و لا شيء غير ذلك - رياض الصالح الحسين

غرفة صغيرة صالحة للحياة
غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للموت
غرفة صغيرة و رطبة لا تصلح لشيء
غرفة صغيرة فيها:
امرأة تقشِّر البطاطا و اليأس
عامل باطون لا ينام أبدًا
بنت تبكي كثيرًا بدون سبب
و أنا ولد مشاكس و غير لئيم
لديَّ كتب و أصدقاء
و لا شيء غير ذلك.
..
و منذ أن ولدت بلا وطن
و منذ أن أصبح الوطن قبرًا
و منذ أن أصبح القبر كتابًا
و منذ أن أصبح الكتاب معتقلاً
و منذ أن أصبح المعتقل حلمًا
و منذ أن أصبح الحلم وطنًا
بحثت عن غرفة صغيرة و ضيِّقة
أستطيع فيها التنفُّس بحريَّة.
..
إنَّني أتنفَّس بحريَّة
في غرفة صغيرة و ضيِّقة
أخلع ثيابي و أنام
أخلع فمي و أتكلَّم
أخلع قدمي و أقوم بنزهة تحت غبار السرير
مفتِّشًا عن بقايا أطعمة و قطط تحبُّ المداعبة.
..
على الرف في الغرفة كتب و أصدقاء
و هناك أيضًا حزمة جافَّة من البرسيم
صورة لغيفارا و لوحة سوداء لمنذر مصري...
عندما أجوع ألتهم الكتب و أقول للأصدقاء:
- أيُّها الأصدقاء، تعالوا لنتحاور...
و أصدقائي كثيرون
الذين يحبُّونني لا يتركون لي فرصة للموت
و الذين يكرهونني لا يتركون لي فرصة للحياة
و غدًا على الأرجح
سألْتَهِمُ الأصدقاء
كما التهمت الكتب و قرارات الأمم المتَّحدة
و غدًا على الأرجح
سأكفُّ عن الحلم
مثلما كفت الآنسة (س) يدها عن شؤون قلبي
و غدًا على الأرجح
سأترك للغرفة تأسيس حياتي
بجدرانها الخمسة المدمَّاة
و نافذتها الوحيدة المشرعة.
..
في غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للبكاء
في غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للحب
في غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للمؤتمرات
لم أستطع أن أتآمر على أحد
لم أستطع أن أفعل شيئًا.
في غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للكتابة
لم أستطع إلاَّ كتابة وصيَّتي الأخيرة
الغرفة الصغيرة الضيِّقة
الممدَّدة كجثَّة فوق سرير الأرض
قابلة مثلي للتشريح
و مثلي قابلة للإبادة.
..
في الغرفة الصغيرة الضيِّقة
أقرأ الصحف و المذابح
في الغرفة الصغيرة الضيِّقة
أعوي كعاصفة و أغرِّد كسنبلة
أنا في الغرفة الصغيرة الضيِّقة:
نهر مكسور
و أحيانًا أمَّة مضطَّهدة.
..
- أين ذهبت المرأة؟
* لتموت في الغرفة الصغيرة الضيِّقة.
- أين قرَّرْتَ الموت؟
* في الغرفة الصغيرة الضيِّقة.
- كم عمرك؟
* غرفة صغيرة ضيِّقة.
- ما هي الأرض؟
* غرفة صغيرة ضيِّقة.
..
اليوم صباحًا و كإنسان مقتول
يعرف تاريخ ولادته و لا يملك شهادة الوفاة
أغلقت عيني النافذة
و تركت الغرفة الصغيرة الضيِّقة
تفيض حتَّى حافَّتها بالأمراض
اليوم صباحًا
قلت سأفتِّش عن فاكهة لم تلمسها يد
و صديق لم تذهب به رصاصة إلى السماء
ذهبت إلى الأشجار و ما وجدت أحدًا
إلى الينابيع و ما وجدت أحدًا
إلى الصخور و ما وجدت أحدًا
إلى الحيوانات و ما وجدت أحدًا
ذهبت إلى المطارات
و الشوارع
و مؤسَّسات الأيتام
فحسبوني شحَّاذًا و وضعوا في كفِّي النقود...
اليوم مساءً و كحصانٍ مقطوع الرأس
عدت إلى الغرفة
الغرفة الصغيرة الضيِّقة
و بلطة ضخمة من الصراخ تنمو تحت أظافري.