من ملحمة الجزائر - سليمان العيسى

روعةُ الجرح فوق ما يحملُ
اللفظ ، ويقوى عليه إعصارُ شاعرْ

أأغنّي هديرَها ، والسماواتُ
صلاةٌ لجرحها ، ومجامرْ ؟

أأناجي ثوارَها ، ودويُّ
النار أبياتهم ، وعصفُ المخاطرْ ؟

بين جنبيَّ عبقةٌ من ثراها
ونداءٌ – انّى تَلفّتّ – صاهر

ما عساني أقول ؟ والشاعرُ
الرشاشُ ، والمدفع الخطيبُ الهادر

والضحايا الممزّقون ، وشعبٌ
صامدٌ كلإله يَلوي المقادرْ

فوق شعري ، وفوق مُعجِزة
الألحان هذا الذي تخطُّ الجزائر

يا بلادي ، يا قصةَ الألم الجبار
لم يَحْنِ رأسه للمجازرْ

ما عساني أقول ؟ والنارُ لم
تلفح جبيني هناك ، والثأر دائر

ودويّ الرشاش لم يخترقْ
سمعي ، ويسكبْ ، في جانحيَّ المشاعر

لم أذق نشوةَ الكمين يدوي
فاذا السفح للصوص مقابرْ

لم أعصِّبْ جرحي ، وكفّي على
النار ، وعيناي في العدوّ الغادرْ

ألف عذرٍ ، يا ساحة المجد ،
يا أرضي التي لم أضمّها ، يا جزائر

ألف عذرٍ ، إذا غمستُ جناحي
من بعيدٍ بماحقاتِ الزماجرْ

بيديكِ المصيرُ ، فاقتلعي الليلَ ،
وصوغيه دافقَ النور ، باهرْ

لك في الشرق جانحٌ عربيٌ
يتمطّى عن معجزاتِ البشائر

لكِ هذا الجدار ينسحقُ
الغدرُ على سفحه وتُمْلَى المصائر

رفعته الأكبادُ في مصرَ والشام
مضيئاً ، كطلعة الله ، ظافرْ

وحدةٌ ، مثلما أشرأبّ بقلب
الموج طود نائي الشماريخ قاهر

وحدةٌ .. ديْدبانُها لهبُ الشعب
ورُبّانها إلى الشطِّ ناصرْ

...

إنه مولد الضحى

فتخطّيْ به القَدرْ

قصفةً بعد قصفةٍ

وسلي موكبَ الظّفرْ

عن حكايات غاصبٍ

فوق كثبانكِ انتحر

ما فرنسا و "مجدها"

مجدها الكالح الصوْر

غير ذكرى غداً على

شطِّ "وهران" أو خبرْ

...

يا قلاعَ الطغاة ، قد نفَضَ
العملاق عن جفنه عصور الضبابِ

والتقينا من غير وعدٍ على الثأر ،
شهابٌ يضيء دربَ شهاب

سفحتنا الصحراء فجراً سخيّاً
بالبطولاتِ ، بالعتاقِ العرابِ

أمةٌ ظنّها الغزاةُ اضمحلّت
وتلاشت وراء ألف حجابِ

في افترار الربيع لا يسأل السروُ
شموخاً عن حاقد الأعشابِ

والعتيقُ الأصيل لا يخطئ الشوطَ !
وضجِّي يا حانقات الذئابِ !

المروءات قد تنام عن الخلد ،
وتكبو في رحلةِ الأحقابِ

ويعيث اللصوص في حرم التا
ريخ .. ظفرٌ دامٍ وشرعةُ غابِ

فجأةً ، يستفيق في جانب
البيد نبيٌّ ، وسورةٌ من كتاب

ويدوِّي على الرمال نفيرٌ
عربيّ ، فالأرضُ رجْعُ جوابِ

وإذا الدهر من جديدٍ نشيدٌ
صاغه أسمرٌ لحُلْمِ ربَابِ

...

مَنْ سقى الرملَ في الجزائر رعْشاً
وحياةً تمور مَوْرَ العبابِ !

من أحال الجبال زأرَ براكينَ ،
وجدرانَ معقلٍ غَلابِ

يتحدّى قوى الجريمة في الأرض ،
فتبدو كسيحةَ الأنيابِ

إنها أمتي .. تَشُدّ جناحيها ،
فوجهُ التاريخ فجرُ انقلابِ

حادثُ الجيل عودةُ الفارسِ
الأسمرِ حَلّ الميدانَ بعد الغياب

لا تسلني عنه ، تَلفّتْ تَرَ
الأنجم وشياً على جناح عُقابِ

لا تسلني ..طلائعي تَمْلأ
الأفقَ ، كأنّ السماء بعضُ الرحاب

لا تسلني .. جزائري تخضب
التاريخ عطراً بحفنةٍ من ترابِ

إنها أمتي .. تعود إلى الساحِ
نبيّاً ، وآيةً من كتابِ

...

معكم في صراعكم

يا صقورَ الجزائرِ

معكم كلّ خافقٍ

ولكم كل ناظر

معكم ، والضحى لنا

عربي الغدائرِ

لي بوهرانَ سكرةٌ

يوم أروي محاجري

من ترابي محرراً

عابقاً بالمفاخرِ

...

أين مني عينان ، خلفَ جدارِ
السجنِ ، مكحولتانِ بالكبرياء !

وجبينْ ، وألفُ نجمة صبحِ
لألأت فوقَ جرحه الوضّاءِ

وفمٌ ، ويعْجزُ العذابُ ويعيا
فيه عن محو بسمةٍ زهراءِ

بسمة .. لخّصتْ بها شرفَ
التاريخ صديقةٌ من الصحراء

يلعَقُ الوحشُ جرحها ، فتردّ
الطرف كبْراً في صامت من إباء

وهي مذهولةٌ : اتبلُغُ يوماً
مثل هذا نذالةُ الأحياء !

أين مني جميلة* ؟ تزأرُ السا
حاتُ من صمتها بألفِ حُداءِ

أي سرٍّ في الصمت يُرسلُهُ
الأبطالُ ناراً ، وصاعقاتِ فداءِ !

أي سرٍّ هزّت به الشفقة
السمراء قلب الدنيا بغير نداء !

أتراها في السجن قدّيسةُ الصحـ
ـراء تطوي جراحها في حياء !

عَظُمتْ صيحة الفداء ، وعزّتْ
انْ تُوارى في دامسِ الظلماءِ

هي فينا سحْرُ القصيد إذا
غنّى ، ووهْجُ الناريةِ البتراءِ

هي في غضبة الملايين تهوي
فوق جلادها سياطَ ازدراءِ

في بلادي ، في الصين ، في شفتيْ
راعٍ يغني على الذرى الخضراء

وهِمَ المجرمون ، لن يطفئوا
الشمس بارهاب غيمةٍ سوداءِ

تتحداهم جميلةُ بالصمتِ
رهيبا ، والبسمة الزهراءِ

تتحداهُمُ صخورك يا (أوراس)
أن يوقفوا زئيرَ القضاءِ

موجةٌ .. تحملُ العروبة فيها
من جديدٍ مقَدّساتِ السماءِ

_____________

*البطلة الجزائرية جميلة بو حيرد