تعَالَ يَا بدر - سليمان العيسى

النهرُ مَلْحَمَةٌ خَضْراءُ تنتَظِرُ
فانشُرْ جَناحَيْكَ واصدَحْ أيها الوتَرُ
تَعالَ من وَحْشةِ الصحراءِ من ظَمَأٍ
ما زالَ في الجَسَدِ المسحوقِ يَسْتَعِرُ
تَعالَ يا بَدْرُ، شارِكْنا عَشِيَّتَنا
عنكَ الحديثُ، ومن ديوانِكَ الخَبرُ
تعالَ منْ عذَباتِ النَّخْلِ وَشْوَشةً
من شُرْفةٍ راحَ عنها يَرْحَلُ القَمَرُ
إنَّا ضُيوفُكَ فانْزِلْ.. غابتَاك هنا
عَيْنانِ يُورِقُ في غَوْريهما السَّحَرُ*
تَعالَ، فالنهْرُ أصْداءٌ مُعَطّرةٌ
ونحنُ عن كل حرفٍ قلتَه سَمَرُ
نجوبُ غاباتِكَ العذراءَ، نَسْألُها
وتُنْصِتُ الغيمةُ الزرقاءُ والنّهرُ
لم يَذبُلِ الوَرْدُ.. ما زالَتْ تُنضرُهُ
كأسٌ من الشَّهَقاتِ الحُمْرِ تُعتَصَرُ
ما زِلْتَ في "مَنْزِلِ الأقنانِ"* قافيةً
تَنْدى - اذا غمغَمتْ - تَنْدَى بها سَفَرُ
*
مَررْتُ يا بَدْرُ بالسمراءِ ساهمةً
و"بالشناشيلِ"* خَجْلَى منكَ، تعتذِرُ
سقَيْتَها عَبَراتِ الخُلْدِ صافيةً
فما أَحسَّتْكَ حتى آذَنَ السَّفَرُ
عذراءُ شِعْركَ في الذكرى، أتُبْصِرُها؟
أيُّ الطيوفِ على الأهْدابِ ينكسِرُ؟
أيُّ الأغاريد مما كنتَ تسكُبُهُ
في سَمْعِها تستعيدُ الآنَ، تَذَكّرُ؟
يا عاصر الكرمِ يَسقي الناسَ خمرتَهُ
وفي جحيمٍ من الحِرْمانِ ينتَحِرُ
إِنَّا ضُيوفُكَ.. فانْزِلْ بيننا نَغَماً
ما زالَ يحلُمُ فيه الدِّفْء والمَطَرُ
تَحجَّرَ الدّفْقُ تمثالاً نطوفُ به*
وحدي يُشاطِرُني أَسرارَه الحَجَرُ
أكادُ أسمعُها زَهْراءَ غاضِبةً*
تملْمَلَ الجوعُ فيهان واشْتَكَى السَّهَرُ
تَبُثُّني حُبَّك المطعونَ: غادرةٌ
هذي، وتلكَ، وأَشْياءٌ لها أُخَرُ
"إلَهةٌ" صُغْتُ منها، وَهْيَ غافلةٌ
يا "لَلْإِلَهِ".. تَشَهَّى لَمْسَه البَشَرُ!
أحببتُها، لَهثَتْ روحي بقافيةٍ
في شَعْرِها، دَفْتري من شَعْرِها عَطِرُ
وما ظَفِرْتُ بُهدْبٍ يَستريحُ على
جوعٍ أُهَشَّمُ في فكّيهِ، أنصَهِرُ
تَعاسةُ الشعرِ في قِيثارتي قَدَرٌ
حَسْبي، شَبِعتُ شَقاءً أيها القدَرُ!
ونقتُلُ الليلَ أَسْماراً مُجَرّحةً
يا لَلطُّفولةِ.. كم يحلو بها الهّذَرُ!
*
قيثارةَ الدارِ* ، جِئْنا من مآتِمِنا
من المَجازرِ لا تُبْقِي ولا تَذَرُ
جِئْنا نَلمُّكَ أَلْحاناً مُبَعْثَرةً
في كلِّ حَنْجَرةٍ من نَبْضِها أَثرُ
إِنْزِلْ إلينا.. فقد تَلْقَى العَزاءَ بنا
ألم يُمزَّقْكَ في صحرائِكَ الضجَرُ؟
______________
*إشارة إلى قصيدة السياب
* منزل الأقنان: اسم ديوان للسياب
* الشناشيل: شرفات مزخرفة من الخشب تجدها في بيوت البصرة القديمة، ومنها أخذ الشاعر عنوان إحدى مجموعاته الشعرية.
*إشارة إلى تمثال الشاعر الذي أقيم في البصرة، على رصيف شط العرب.
* كان من عادة المرحوم السياب أن يقرأ علي كل قصيدة جديدة يكتبها في دار المعلمين العالية ببغداد في فترة الدراسة.