لي من جراحكِ شمعتان - طلعت سفر

ردّي إليك الكأس... لستُ بصادِ‏
أكرمتُ عن لهو المدام... فؤادي‏
وأعطي لغيري ما ردَدْتُ... لعلها‏
يزكي اللهيبُ بها حقول رمادِ‏
نزّهْتُ نفسي عن دبيب خُمارها‏
حَذَر الهوى... وصبغتها بعنادي‏
أنا كم دفعتُ النائبات براحتي‏
وسحبت من كفّ الزمان قيادي!‏
ألقت بيَ الأيامُ خلف تخومها‏
فعجنتُ من مطر الضَياع رقادي‏
تنداح أجراس الحنين بمسمعي‏
فأمدّ أشرعتي على الأبعاد‏
"هي ضيعة عما أُريد... وغربةٌ‏
فأنا بوادٍ والمراد بوادِ"‏
تركتُ ملاقاةَ الظلام بأعيني‏
مزقاً... وفي قلبي جدارَ سواد‏
فكأنما عينايَ في حَلَك الدجى‏
مزروعتان على غدير سهاد‏
ضاقت بيَ الدنيا برغم فضائها‏
فكأنها وقفتْ على أعواد‏
وطنٌ...‏
يمدُّ ليَ الجفاءَ... وذكرُهُ‏
ينهلُّ بي عيداً من الأعياد‏
أبداً... يدير ليَ الأسى بيمينه‏
وأنا أُدير محبتي وودادي‏
يا من شدا زمن بغُرّة مجده‏
لم يبق فوق غصون مجدك شادِ!‏
لولا دمشق لكنتُ أوّلَ من نعى‏
آماله... ولبستُ ثوبَ حِدادِ‏
هي إصْبَعٌ فوق الزناد.. وصارم‏
أَلِفَ الجهادَ... ونخوة الآساد‏
ما مرة شكتِ العروبة جرحها‏
إلا وهزّت سيفها لجهاد...‏
لحنٌ على شفة الزمان... ولمسةٌ‏
بيد الحنان... ونهْلةٌ للصادي‏
فمتى تزغرد هضبةٌ محزونة‏
بالثائرين... وتستفيق بوادِ؟!‏
ومتى الدم العربي يلبس جرحَهُ‏
ويجول نبْضُ النار في الأجساد؟!‏
يا أيها الوطن الممدَّدُ... كم على‏
أعراشكَ الصفراء من أوغاد؟!‏
شاؤوكَ مقبرة الحياة... ليدفنوا‏
وجهَ الربيع.. وبسمة الأوراد‏
فانفضْ ثيابكَ من صفيق غبارهم‏
إني أغار عليك من أحفادي‏
لا حرَّ فيكَ مُتوّجاً إلا لـه‏
خلف الحدود... وثيقةُ استعباد‏
يخشى على كرسيّه فيصونه‏
ويعيث في باقي الحِمى كالعادي‏
بازٍ...‏
فما هدلتْ لديه يمامةٌ.‏
إلا... وأسكتها عن الإنشاد‏
يغفو على زَنْدِ الإباءِ... وطالما‏
كسَرَ الهوانُ لَهُ جبينَ وساد‏
يا قدسُ!‏
ما حمل الزمانُ سهامه‏
إلا أصابكِ عامداً بسواد‏
أبكي على الأقصى تعفَّر وجهُهُ‏
بالأمس؟‏
أم أبكي على الأمجاد؟!‏
دارت بكِ الدنيا... ونحن كأننا‏
في الأرض مزروعون كالأوتاد‏
دَنِسَتْ محارُمنا لديكِ... ولم نزلْ‏
نجلو مكاحلَ عيشنا المعتاد...‏
لا تنفخي... أو فانفخي بمواقدٍ‏
عبث الزمان بجمرها الوقاد‏
من حزّهُ سيفُ الهوان... وباسَهُ‏
هانت لديه حدائد الأصْفاد‏
موتى...‏
نخيط بذلّنا أوقاتنا‏
متلمّسين مكارم الأجداد‏
لا سيفَ فينا تستضيء به العُلا‏
"طُويتْ سيوف الفتح في الأغماد"‏
وإذا البنادق أجهشتْ في صمتها‏
فلأنها أضحتْ بغير زناد...‏
لكِ من بنيك أصابع إن أُشرعتْ‏
أدمَتْ أظافرُها يدَ الجلاد‏
وسواعد بإبائها مسنونة‏
وخناجرٌ ـ فوق الجراح شواد‏
تركوا أمانيَّ الحياة.... وشَجْوَها‏
ومضوا إليكِ على دروب قتاد‏
نهضَتْ بهم هِمَمٌ ليبني خطوُها‏
بدم الفداء... منائر استشهاد‏
لم يحْملوا إلا خيوطَ جراحهم‏
حتى يخيطوا المجد بالأكباد...‏
أفدي بهم بارودةً محشوَّةً‏
بمداد عزمٍ... أو نجيع فؤاد‏
ما زغردت... إلاَّ وشَّق هتافُها‏
كالنجم... أستارَ الظلام البادي‏
يمشي بها تحت المجرّة ثائرٌ‏
حمل الرصاص.. كفى به من زاد‏
عيناه... أُفقٌ للنسور... وكفُّهُ‏
سيفٌ يحزُّ أصابعَ الجلاد‏
يهوي... لكي يعلو جبينُ فخاره‏
ميتاً...‏
ويكتبَ ساعةَ الميلاد‏
وبنار بركانٍ تزنَّرَ خصرُهُ‏
ومشى به صمتٌ إلى ميعاد‏
يا قدس! ما نشفتْ دماؤكِ.. أو كبا‏
عَزْفُ الجهاد.. ولا صهيل جياد‏
سَيْفِيءُ هذا الليل عنكِ... وترتمي‏
بغدٍ... مساحبُ فجركِ الميّاد‏
لي من جراحكِ شمعتان...‏
فَشمعةٌ‏
لكِ في النضال...‏
وشمعة لبلادي‏
*
25 ـ 12 ـ 2003‏